واعلم أن الإِحصار عندنا (١)، وعند جماعة من السلف، وأهل اللغة عامٌ للمرض والعدو، كما نُقل عن الفَرَّاء أيضًا. وعند الشافعية يختص بالعدو. وادَّعى بعضٌ من الحنفية أنَّ المحصرَ لا يقال إلا في المرض، أما في العدو فيقال له: محصورٌ، لا محصر. قلتُ: وليس بجيد، فإنَّ الآية حينئذٍ تقتصر على المرض، مع أنها نزلت في العدو بالاتفاق، فإنَّها نزلت في قصة الحُدَيْبِيَة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلّم فيها مريضًا.
وههنا دقيقةٌ، وهي أنَّ اللفظَ قد يُشتهر في نوع من الجنس، ثم يرد استعماله في نوع آخر من ذلك الجنس، أو في الجنس بعينه، فيجعله الناس مقابِلا كالإِحصار، فإنَّه عامٌ للمرض والعدو، إلا أنه اشتُهر الإِحصار في المرض، والحصر في العدو، حتى تذهب أوهام العامة، أنهما متقابلان، فجعلوا الإِحصارَ مختصًا بالمرض، والحصرَ بالعدو ليس كذلك. وإنما أخذ القرآن في النظم، واللفظ العام، لئلا يختصَ الحكمُ بالعدو، ويعم للمرض، والعدو كلاهما، ونظيره لفظ:«كل» بالكاف الفارسية في اللغة الفارسية، فإنَّه عامٌ، ثم اشتهر في بعض أنواعه. وهذا الذي عَرَضَ لهم في لفظ:«الخمر» فاختلفوا فيه، كما رأيت. والسر فيه ما قلنا.
(١) قال المارديني: ذهب ابن مسعود، وعطاء، وجمهور أهل العراق، وأبو ثوْر في رواية: أن الإِحصارَ يكون بالمرض، كذا في "الاستذكار". وأكثر أهل اللغة على أنَّ الإِحصار بالمرض، والحصر بالعدو. وعدل عن لفظِ الحصر المختص بالعدو إلى الإِحصار المختص بالمرض، دل على أنه أريد باللفظِ ظاهرُه، وهو المرض. ولما حل عليه الصلاة والسلام، وأمر به أصحابَه، دل على أنَّ الحصرَ من حيث المعنى كذلك، وأيضًا لما جاز الإِحلال بالعدو لتعذُّر الوصول إلى البيت، وذلك المعنى موجودٌ في المرض ساواه في حكمِهِ. ولهذا لو حُبس في دين أو غيره، فتعذر وصوله، كان كالمحصر. ولو منَعَها من حج التطوع بعد الإِحرام جاز لها الإِحلال. اهـ. "الجوهر النقي"، قلت. وأخرج أبو داود مرفوعًا: "من كسِرَ أو عَرِجَ فقد حَلَّ، وعليه الحج من قابلٍ، قال عكرمة: فسألت ابن عباس، وأبا هريرة عن ذلك، فقالا: صدق". قال الخَطَّابي: فيه حجةٌ لمن رأى الإِحصار بالمرض، والعذرَ يعرِضُ للمحرم من غير حبس العذر.