وقد ذَكَرْتُ في رسالة «الفاتحة خلف الإمام»: أن في الأحاديث أشياء بقيت في اللِّحَاظ، ولم يَظْهَرْ بها العملُ كما سَمِعْتَ. ومن الحنفية من تمسَّك بقوله صلى الله عليه وسلّم «من صَامَ الدَّهر ضُيِّقَتْ عليه جهنم» هكذا ذكره الحافظُ في «الفتح» روايةً عن ابن خُزَيْمة. قلتُ: وهذا خطأٌ. فإن في الحديث وعيدًا عظيمًا على هذا التقدير، فكيف يكون في حقِّ صوم الدهر، فإنه جائزٌ عندنا أيضًا. ورَامَ الحافظُ التقصِّي عنه. وقال: معناه إن جهنَّمَ تَبْتَعِدُ عنه، ولا يَزَالُ كذلك حتَّى يتنحَّى هكذا. وطُولِبَ أنه ينبغي أن يكونَ لفظُ الحديث على هذا التقدير: ضُيِّقَتْ عنه، مكان عليه، وعَجَزَ الحافظُ عن جوابه.
قلتُ: والحلُّ أنه على حدِّ قوله: ضاقت الجُبَّة على فلانٍ، إذا قَصُرَتْ عن جسده، ولم تَصْلُحْ له. فالمعنى: أن جهنمَ تَضِيقُ دونه، فلا تَسَعُ له، كما أن الجُبَّةَ الصغيرة تَضِيقُ على الجسد، وهو مآلُ قوله:«الصومُ جُنَّةٌ». وحينئذٍ ففي الحديث وعدٌ عظيمٌ، وفضلٌ كبيرٌ لمن صام الدهر، حتى إن جهنَّمَ مع سَعَتِهَا ضيِّقةٌ لمثله، ولا تَصْلُح له، فكيف يَدْخُلُها، فإنه ذو جُنَّةٍ؟ وكيف تَقْرُب صاحب المِجَنَّة!.
ثم اعلم أن صومَ الدهر في التنزيل جاء على أنحاءٍ شتَّى، وفي بعضه يَسْتَقِيمُ حساب الحسنات بعشرٍ أمثالها، كثلاثٍ من كلِّ شهرٍ، وفي بعضه لا، فتنبَّه.
تنبيهٌ: واعلم أن كثيرًا من باب الفضائل يَرِدُ بها الأحاديثُ القوليةُ. ولا يَردُ بها الفعل، وليس يَلْزَمُ أن يَعْمَل بكلِّ فضيلةٍ كلُّ أحدٍ. ولكن فضيلةٌ وفضيلةٌ، ورجلٌ ورجلٌ. فالأذانُ ذكرٌ، وموجبٌ للفضل، إلا أن له رجالا، وكذلك الإِمامةُ أيضًا فضيلةٌ، ولها أيضًا رجالٌ:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}[البقرة: ٢٥٣].
قوله:(لا أَفْضَلَ من ذَلِكَ)، قاله في صيام داود، وذلك لتَجَاذُب الأطراف في صيام الدهر، فلا يُريدُ أن يرغِّب فيه، ولا يريد أن يَنْهى عنه صراحةً. فلذا لم يأمره به في جواب قوله:«إني أُطيقُ أكثَر من ذلك»، ولا نهى عنه صراحةً، ولكن قال: لا أفضلَ من صيام داود، وهو دَأْبُ البُلَغَاء في مثل هذه المواضع.
٥٧ - باب حَقِّ الأَهْلِ فِى الصَّوْمِ
رَوَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -.