وكَرِهَ فقهاؤُنا أَنْ يُصلِّي وبين يديه جمرة لأَنَّها يعبدها المجوس، أما إذا كان سراجًا أو غيره فلا كَرَاهَةَ لانتفاءِ المَنَاط، ويُمْكِنُ أَنْ يكون المصنِّف رحمه الله أَرَاد منه التعريض إلى الحنفية.
قلتُ: وما تَمَسَّك به المصنِّف رحمه الله من قوله: عُرِضت عليَّ النار» ففي غير مَحَلِّه قطعًا لأنَّه مِنْ أشياء عالَمِ الغيب وهي خارجةٌ عن البحث، والاعتذارُ من جانب المصنِّف رحمه الله أنَّه إذا أَرَادَ أَنْ يُفَصِّل في الاجتهاديات ويُشدد في الأحاديث احتاج لا مَحَالَة إلى اعتبارِ مثل هذه المناسَبَاتِ البعيدة، وإلا فَمِنْ أين توجَد الأحاديث الصريحة للمسائلِ الفقهية؟ ثم إنَّه قد وَقَعَ له العَرْضُ مرتين في صلاةِ الكُسُوف، وَمَرَّةً كان على المنبر وَأَغْضَبَه النَّاس، فقال:«من كان منكم سائلا عن شيءٍ فليسأله»، فقام رَجُلٌ وقال: مَنْ أبي؟ قال:«أبوك فلان»، وإنَّما غَضِبَ لأنَّه بُعِثَ لبيانِ الشرائعِ، وسأله النَّاس عمَّا لا تَعلُّقَ له بها.
٥٢ - باب كَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِى الْمَقَابِرِ
٤٣٢ - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «اجْعَلُوا فِى بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا». طرفه ١١٨٧ - تحفة ٨١٤٢
وقد مَرَّت المسألة عن «الجامع الصغير» أنَّه إذَا وَضَعَ بينَهُ وبين القبرِ سُتْرَة لا يُكْرَه وإلا كَرِه، وإنْ كان القبرُ في جوانبه لا يُكْرَه.
٤٣٢ - قوله:(اجعلوا في بيوتِكم) ... إلخ وَجَزم الطحاوي بأنَّ المُرَادَ منها التطوع فقط لأنَّه لمَّا جَعَل الفرائضَ في المساجد فحينئذٍ لا يتناول هذا القول إلا النوافل. وحَكَى القاضي عِيَاض عن بعضهم أنَّ مَعْنَاه: اجعلوا بعضَ فرائِضِكُم في بيوتِكم. قلت: وله وجه أيضًا، أما الضابطة فكما ذَكَرَها الطَّحاوي يعني أنَّ الفرائِضَ في المساجد والنَّوافل في البيوت، وما ذَكَرَه هذا البعض محمولٌ على جزئيات غير منضبطة كأن فاتَتْهُ الصَّلاة مع الجماعة أَوْ لم يُصلِّ الإِمام في وقتها إلى غير ذلك مِنَ العوارِض.
قوله:(ولا تتخذوها قبورًا) واخْتُلِف في شرحه على أقوال: قيل: لا تدفنوا موتَاكُم في البيوت وحينئذٍ لا مناسبة له من الجملة الأولى، فإنَّها في أحكامِ الصلاةِ وهذا في حكم الدَّفن. وحاصله: مَنْع الدفن في الأبنية، وقيل معناه: أَعطوا البيوت حظَّها من الصلوات ولا تجعلوها كالمقابر حيث لا يُصلَّى فيها إلا بالسُتْرَة، فأحالَ على المقابر لكونِهَا معهودةً معروفة بهذه الصِّفة، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا:«أَنَّ الأَرض كلَّها مسجد إلا المَقْبَرة والحمام»، وهذا الشرح أَلصق بترجمة المصنِّف رحمه الله وكأنَّه أخذَه من التشبيه يعني كما أنَّ الصلاةَ عند القبرِ مكروهةٌ في الفقه فلا تجعلوا بيوتَكم كذلك، بأنْ لا تصلّوا قريبًا منه أيضًا، ولكن صلُّوا فيها، فتكونُ أبعد شبهًا بالقبور. وقيل معناه: لا تُعَطِّلُوا البيوتَ عن العبادةِ كالقُبور، إذ الموتى، لا يُصَلُّون في قبورِهم، كأنَّه قال: لا تكونوا كالموتَى الذين لا يُصلُّون في بيوتِهم