٣٨٧ - قوله:(لأن جريرًا) ... إلخ. والعجب أنَّ قوله تعالى:{فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم}[المائدة: ٦] كان دليلا على إيجاب غَسْلِ الأَرْجُل عندهم، حتى كان يُتَوهم منه نسخ مسح الخف، ولذا كانوا يحبون حديثَ جَريرٍ، لأنه أَسْلَمَ بعد نزول المائدة، فلو كان المسحُ منسوخًا كيف أَدْرَكَهُ جرير؟ فإذا رواه جرير مع إسلامه بعد المائدة، عُلِمَ بقاؤُهُ بَعْدَهُ أيضًا، وأَنَّهُ لم يُنْسَخ منها، فلم تَبْقَ حِيْلَة لمن أَنكر المَسْحَ بأَنَّهُ كان، ثُمَّ نُسِخَ بِنُزولِ المائدة - والروافضُ الملاعِنة يفهمون أنَّ آية المائدة، قامت دليلا على مَسْحِ الأَرْجُل بدون الخِفَافِ أيضًا، على نقيض ما فهمه الصّحابة رضي الله عنهم، فانظر كيف انقلبَ الحال ظهرًا لبطن.
أقول إنَّ المَسْحَ في اللغةِ بمعنى مَسَاسِ الماءِ وإسالتِهِ أيضًا، كما ذكره ابن تيمية رحمه الله تعالى. وحينئذٍ مسحُ الرأس هو بإمرارِ اليدِ المُبْتَلَّة؛ ومسحُ الأَرْجُلِ بِإِسَالَةِ الماءِ عليها، وليس هذا مِنْ بَابِ عمومِ المشْتَرك.
والوجه فيه عندي: أنَّه مِنْ بَابِ اختلافِ المعاني باختلاف المحال، فمسحُ الرأسِ هو الإِصرار، ومسحُ الأَرْجُل هو الإِسالة كما قلت في لفظٍ النَّضْح، فإِنَّ النَّضْحَ لفظٌ واحد، وله معنىً واحد، إلا أنه اخْتَلف باختلافِ المحال.
فالواحد: نَضَحُ البحر، وأَنْتَ تَعْلَم أَنَّ نَضْحَ البحرِ يكون بقدر عِظَمهِ، فلو مَاج البحرُ موجَةً يقال: إنه نَضْحٌ.
والآخر: نَضْحُ النَّواضح، وهذا النضح أيضًا يكون بقَدْرهِ، فيكون أقل مِنْ نَضْحِ البحر بكثير.
والثالث: نضحُ الإِنسان، وهو أخف من الكلِّ، ويكون بمعنى الرأس، وقد ذكرناه مرةً في الطهارة بَسْطًا منه، وكذلك المسح في الرَّأسِ بمعنى الإِمرار وفي الأَرْجُلِ بمعنى الإِسالة، لا مِنْ جهةِ تغايرِ معناه، بل من جهةِ المحال المختلفة وموارد الاستعمال. وحاصله: أنَّ النَّضْحَ والمَسْحَ واحدٌ، وأشكالها مختلفة، ففي موضعٍ كذا، وفي موضع كذا.
وستجيء هذه الترجمة والتي بعدها في صفة الصلاة بعينها، ولولا أنه ليس مِنْ عادة المصنف رحمه الله تعالى إعادة الترجمة وحديثها معًا، لكان يمكن أن يقال، مناسبةُ الترجمة الأولى لأبوابِ سَتْرِ العَوْرَة، الإِشارةُ إلى مَنْ تَرَكَ شرطًا لا تصح صلاتُهُ، كمن تَرَكَ ركنًا، ومناسبة الترجمة الثانية، الإِشارةُ إلى أَنَّ المجافاةَ في السجودِ لا تستلزمُ عَدَمَ سَتْرِ العَوْرَة فلا