ثمانية أرْطَال في زمن عمر رضي الله عنه مع بقاء اسمه، ولعلّه زاد ثمنه، فبقاء الاسم والثمن مع زيادة الوزن هو ثمرةُ دعاء النبي صلى الله عليه وسلّم فصاعنا من ثمرات دعائه صلى الله عليه وسلّم.
وأمَّا وجه رَوَاجه في زمن عمر رضي الله عنه دون زمنه صلى الله عليه وسلّم فَوُفور الأشياء في زمن عمر رضي الله عنه، بخلاف زمن النبي صلى الله عليه وسلّم.
ويُسْتَفَاد مِنْ هذا الحديث تعدّد الصِيعَان في عهد النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كما قلت: إنَّ صَاع العِرَاقيين والحِجَازيين كلاهما كانا في زمنه صلى الله عليه وسلّم وإنْ كان أحدهما أقل استعمالًا من الآخر، على أنه يَنْهَدِم منه أصل المقدمة المتفق عليها أيضًا، لأنه يدلُ على أنَّ المُدَّ ليس رُبْع الصَّاع، فاختلفت الأَمْدَاد أيضًا، وحينئذٍ لا يكون أكبر الأَمْدَاد رُبْع أصغر الصِيعَان، ثم «الصُّوَاع» في سورة يوسف والصَّاع واحدٌ، مع أن الصُّوَاع أكبر من صاع الشافعية. وفي «الفنجاب»: مِكَيالٌ يُقَال له جها وظنّي أنَّه من الصَّاع مكيال آخر كروه، ولعلَّه من الكُرِّ. وليُعْلَم أن الناس إنما تحيَّروا في معرفة مقادير هذه المكاييل لفُقدانها في زماننا، وانقطاع العمل عمّا كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم فتعلَّلنا عنها بالاسم فقط، وهذا هو الحال في جميع الأشياء التي لا توجد بين الناس.
وقد تصدَّى صاحب «القاموس» لبيان تعداده، فقال: إنَّ المُدَّ مكيالٌ يسع حَثْيَة من حَثْيَة الرجل المتوسط، والصَّاع ما يَسَع أربع حَثَيَات كذلك.
قلت: ولو كان المقصودُ بيان استقامة الحساب على مذهب الشافعية، فإِنَّه يستقيمُ على مذهب الحنفية أيضًا، فإِنَّ صاعهم إن كان يتمّ بأربع حَثَيَات، فصاعنا يتمّ بستة حَثَيَات.
وصاحب «القاموس» كما أنَّه لغوي كذلك حافظٌ للحديث أيضًا، وقد سَمِع مرّة أربع مئة سطر، فَوَعاها من ساعته. وقد صنَّف «القاموس» في اليمن، وهو شافعي، ومعتقدٌ لأبي حنيفة رحمه الله تعالى، إلاّ أنه قد يتجاوزُ عن الحد في حماية مذهبه، وله رسالة بالفارسية سمَّاها:«نور سعادت»، وأتى فيها برواياتٍ لا أصل لها عند المحدِّثين، وهكذا قد يذكر لتأييد مذهبه أسماء الصحابة ولا يكون له أصلٌ، ولا يكون مقصوده منه إلاّ تكثير السواد، كما فعله في مسألة رفع السَّبِّابة، فإِنَّه لم يثبت عمَّا ذكره من عدد الصحابة قط. وهكذا فعل في رفع اليدين، فقد عدّ فيه جِماعاتٍ كثيرةً. مع أنه خلاف الواقع، كما سنحقِّقه في بابه إن شاء الله تعالى.
ولنا أحاديث عند الطَّحَاوي، وأبي داود، والنَّسائي، وقد مرَّ أن النَّسائي أذكى من مسلم، وأمَّا أبو داود، فهو حنبلي راوٍ لفِقه الإِمام أحمد رحمه الله تعالى، كمحمد وأبي يوسف لفقه الحنفية، ومَنْ عدَّه من الشافعية، فكأنَّه لم يقصد به إلاّ تكثيرَ السواد، ولا ريب أنَّه حنبلي فاعلمه.
ثم اعلم أنَّ ابن جَبْر هذا الذي في إسناد البخاري، هو الذي يفسِّر المُدّ: أنه رطلان عند أبي داود، ولم يُرْوَ في تحديد الماء في الوضوء عن الأئمة شيء، غير أَنَّه يتوضّأ وضوءًا بن الوضوءين، ووقَّته محمد رحمه الله هنا بالمُدِّ تبعًا للحديث، والحافظ رحمه الله تعالى لم يذكر اسمه، وضرب عنه كَشْحًا، وأغمض عنه، وأمَّا خمسة أمْدَاد في الغُسْل، فقيل: المُدِّ للوضوء، وأربعة أمْدَاد للغْسْل. وقيل هو للغُسْل إلاّ أنه إذا أراد الماء من الصَّاع فإِلى خمسة أمْدَاد.