*ودعوتَني وزعمتَ أَنَّكَ صادِق ... وصدقت فيه وكنت ثَمّ أمِينًا
*وعرفتُ دينَك لا محالةَ أنه ... من خيرِ أديانِ البَرِيَّةِ دِينا
*لولا الملامةُ أو حَذَارِ مَسَبَّةٍ ... لوجدتَّني سمحًا بذاك مُبِينًا
وهذا هرقل عظيم الروم يقول: لو أني أعلم أني أَخْلُصُ إليه لتجَشَّمْتُ لقاءه، ولو كنت عنده لغَسَلْتُ عن قدميه، وفي «فتح الباري»: عن مرسل ابن إسحق عن بعض أهل العلم: أن هرقل قال: ويحك، والله إني لأَعْلَمُ أنه نبيٌ مرسل، ولكني أخاف الرومَ على نفسي، ولولا ذلك لاتَّبعتُهُ. فهل تريدُ من التصديق أمرًا وراء ذلك؟ فلما وُجِد منهم التصديقُ والتسليمُ والإقرارُ بهذه المثابة، وَجَبَ على التعريفِ المذكورِ أن يُحْكم عليهم بالإسلام، مع اتفاقهم على كونهم كافرين.
فأقول: إنّ الجزءَ الذي يمتاز به الإيمان والكفر، هو التزام الطاعة (١) مع الردع والتبري عن دين سواه، فإذا التزم الطاعة فقد خرجَ عن ضلالة الكفر ودخل في هَدْي الإسلام. وحينئذٍ تبين لك وجه كفر هؤلاء الكفرة مع تصديقهم ومعرفتهم، وذلك لأن أبا طالب وإن أعلن بحقية دينه، إلا أنه لم يلتزم طاعته، ولم يدخل في دينه، ولذا قال: لولا الملامة أو حذار مسبة .... إلخ، فآثر النار على العار. وهكذا هِرَقل، وإن تمنى لقاءه وَبجَّلَه وعظمه بظهر الغيب، لكنه خشي الرومَ أشدَّ خشية، فلم يلتزم طاعته. وكذلك حال الكفار الذين أخبر الله سبحانه عن معرفتهم، فإنهم مع معرفتهم الحقَ، صفحوا عن كلمة الحق، ولم يَدِينُوا بدين الإسلام.
ولذا أقول: إن الإيمان من الإرادات وترجمته في الهندية (ماننا) فهذا هو الصواب في تفسيره، فقد نقل الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى الإجماعَ على كون هذا الجزء مما لا بد منه في باب الإيمان، وحينئذٍ ينبغي أن يراد من الإقرار في قول الفقهاء: الإقرار بالتزام الطاعة. وإن كان المراد منه الإقرار بالشهادتين كما هو المشهور، يبقى الإشكال.
ثم إنهم اكتفَوا بذكر هذه الأشياء، وفسروا بها الإيمان، لأن الإيمانَ بعد تحقُّقِها يتحققُ في أكثر المواد، وإن تخلَّف عنها في بعض، فبالنظر إلى مواد الاجتماع، جعلت كاللوازمِ المساوية له. وزعم أنها عين الإيمان، ثم إذا أمعنتَ النظرَ في مادة الافتراق وعلمت أنها ليست بإيمان ولا لوازمَ مساوية له، وجب عليك أن تطلبَ أنَّ حقيقةَ الإيمانِ ماذا؟ فهذا الذي نبهناك عليه، هو حقيقة الإيمان، وذلك وإنْ لم يقرع سمعُكَ، لكنه هو الصواب إن شاء الله تعالى، فإن هذا الجزء لا يجامعُ الكفرَ بأنواعه، أي نوع كان.
(١) قلت: ومحصل البحث أن الإيمان هو الاعتمادَ والوثوقَ بالرسول في كل ما جاء به علمًا وعملًا، ومن ههنا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا إيمان لمن لا أمانة له". فإن الأمانةَ أيضًا عبارة عن وصف به يعتمِدُ الناس، وبه يثقون على أحد، فمن لا تكون فيه تلك الصفة فيما بينه وبين العباد، كيف يحصل له الإيمان، وهو صفة الاعتماد فيما بينه وبين الله ورسوله؟ فعمدةُ الإيمان هو الوثوق والاعتماد على الرسول، ولذا قالوا: إن رجلًا لو أذعن بكل الشرائع، بَيْدَ أنه لا يعتمد على الرسول -ولكنه حققها من عند نفسه كسائر التحقيق- فهو كافر قطعًا، نعم، إذا وثق بالرسول أذعن معتمدًا عليه، فذلك هو الإيمان. وهذا هو وجه الاشتراك بين الأمانة والإيمان، فافهم.