للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ونُقِل عن إمام الحرمين رحمه الله تعالى وعن الأشعري رحمه الله تعالى أيضًا كما في «المسايرة»: أنّ الإيمانَ كلامٌ نفسيٌ، وكأنهم أرادوا به: أن القلب إذا تكلَّمَ بكلمة الشهادةِ وأذعن بها فقد تم الإيمان، لأنه لا يمكن منه الجحود بعده، بخلاف الإقرار باللسان، فإنه يمكن الجحود بعده أيضًا. فالإيمان على هذا التقدير ليس عِلمًا من العلوم، بل قول من أقوال القلب. فقول القلب تصديقٌ وإيمان عندهم، وقول اللسان إقرار. ويمكن أن يُحْمَل عليه قول مَنْ قال: إن الإيمانَ قولٌ وعملٌ. ولست أريدُ أنّه مراد البخاري رحمه الله تعالى أو المحدثين، بل أريدُ أن له وجهًا أيضًا. وأما ما نُقل عن (١) إمامنا رحمه الله تعالى: أن الإيمان معرفة.

فالمراد منه المعرفةُ المصطلحةُ عند الصوفية رحمهم الله تعالى، وهي التي تحدثُ بعد الرياضات، وهي الإيمان الكامل. وتلك لا تجامِعُ الجحود أصلًا، بل قلما توجد في قلوب عامة المسلمين، وليس المرادُ منها المعرفة اللغوية ونحوه.

نُقل عن علي رضي الله عنه وأحمد رحمه الله: أن الإيمان معرفةٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان. وأما ما شَرَطَه جَهْمٌ، فقد ردّ عليه إمامنا رحمه الله، كما نقله أصحابنا، فالمراد من المعرفة ما يستوجب العمل، لا التي تجامع الجحود أيضًا، وهي التي تراد في مواضع المدح، وهي التي من الأحوال والأعمال.

أما الإيمان أو المعرفة إذا أطلق على غير هذا مما لا يكون معتبرًا، فيُحْترسُ هناك ولا يُتركُ بدون تنبيه. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: ٨] فنبَّه أن إيمانهم غير معتبرٍ. ثم اعلم أنه أطلق في «الإحياء» الحال على الإيمان. أقول: والأولى لفظ العمل، لأن العمل في اللغة يختص بالاختياري وأما ما يقال: «مات زيد»، فمات فعلٌ، فهو اصطلاحُ النُّحاة. وأما أهل اللغة فلا يُسمُّونَه فعلًا، وإنما الفعلُ عندهم ما يصدر عن اختيار، فالإيمان فعلٌ اختياري، ولا بُدٌّ، فإن المرء لا يُثاب إلا على ما فعله من اختياره، بخلاف الحال، فإنه يُنبىءُ عن عدم الاختيار، ثم له وجه أيضًا، فإن الإيمان وإن كان عملًا في الابتداء، لكنه بعد الرسوخ يصيرُ حالًا غير اختياري، فإطلاق الحال عليه أيضًا صحيحٌ بنحو من الاعتبار.

وعن أحمد رحمه الله: أنه معاقدةٌ على الأعمال، أي الإيمان عقدٌ، على أنه التزامٌ بأداءِ جميع الأعمال على نفسه. أقول: وحينئذٍ يكون الإيمان كالوسيلة، والأعمال مقصودة، فإن العقد


(١) نقله الإمام الحارثي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وأورد عليه الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى: أن الإيمان كيف يكون معرفة، مع أنها حاصلةٌ للكفار أيضًا؟ ثم لما رُوي ذلك عن أحمد رحمه الله تعالى أيضًا، جعل يؤوِّل فيه ويطلبُ له محامل.
قلت: ليته فَعَلَ مثله في مَقولةِ الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى أيضًا واعلم أن "المسند" للإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى لم يجمعْه هو بنفسه، بل جمعَه بعض الأئمة بعده، ويبلغ إلى خمسة عشر. وأحدُ جامعيه هو هذا الحارثي. انتهى. هذا تقريب ما في تقرير الفاضل عبد القدير الكاملفودي مع تهذيب.

<<  <  ج: ص:  >  >>