عَمَلَه. فعلى المحسن الخاشع المريد وجهَ الله أن يصحح نيته، ويسعى فيهما عند الشروع في العمل، ويبذل في استقامتها جهده، ثم يسأل الله أن يقيمَه. وهي غنيمة باردة للإنسان الذي خُلِقَ ضعفَيًا، وصدق الله عزَّ وجلَّ:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: ١٨٥].
وثانيًا: أن الأجساد هي البادية في هذا العالم والنية مستورة بالمرة. وينعكس الأمر في المحشر، فتكون النيات متبوعة والأعمال تابعة، وتكون هي البادية. فيراها أهل المحشر كلهم عِيَانًا، كالأجساد في هذا العالم، فإن ظهورَ كل شيء ما ناسب مكانه ومحله، والمحشر هو محل ظهور النيات، فإن الله سبحانه لا ينظر إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم، ومن يرائي يرائي الله، ومن سمع سمع الله به. فهذه كلها ظهور النيات. وعلى هذا لو اشتمل عمل على ألف نية، تكون ألف عمل يوم القيامة، والله تعالى على ما يشاء قدير.
وقوله:«إنما الأعمال بالنيات» بحرف القصر في مقابلة من زعم عبرة الأعمال ونماءها بالنية الفاسدة، أو أن الأعمال لا تأثير فيها للنيات، فجيء «بإنما» على طريق قصر القلب، كما قال عبد القاهر في «إنما».
ثم تحير الشارحون في وجه حذف البخاري قطعة من الحديث وهو قوله:«فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ... إلخ» مع أنه ذكره من غير طريق الحُميدي مستوفى، وقد راجعت نُسخة الحُميدي - غير مطبوعة - فوجدت تلك القطعة فيها. فعُلم أن التصرف من جانب المصنف رحمه الله. ومحصل الجواب أن الجملة الأولى المحذوفة تشعر بالقربة المحضة، والجملة المذكورة تحتمل التردد. فلما كان المصنف رحمه الله كالمخبر عن حال نفسه في تصنيفه هذا بعبارة هذا الحديث، حذف الجملة المُشعرة بالقُربة المحضة فرارًا من التزكية. كذا في «الفتح» والتفصيل في الشروح.
أما وجه مناسبة الحديث مع الترجمة فمن وجوه ذكرها الشارحون، وما يحكم به الخاطر الفاتر هو أن ورود الأفعال إنما هو بالوحي وصدورها بالنيات. فالوحي مبدأ لوجودها، والنية مصدر لصدورها ونعني بورود الأفعال مبدئيًا، أي الأوامر والنواهي. فالأوامر والنواهي ليست إلا من تلقاء الوحي، فيكون مبدأ لها. وكذلك صدورها لا يعتبر في الشرع بدون النية، فتكون مبدأ أيضًا. فالأفعال ذو حظ من الطرفين، والعلاقة هي الوحي في جهة: والنية في جهة. فالوحي والنية علاقتان لها: إحداها لوجودها، والثانية لصدورها والله تعالى أعلم.
ولنا أن نقول في وجه المناسبة، ولنمهد لذلك مقدمة: إن كل شيء إنما يعرف بآثاره، فإن كانت آثارهُ حسنة، كان الشيء حسنًا، وإن كانت قبيحة، كان الشيء أيضًا كذلك. كيف لا وإنما الثمرة تنبىء عن الشجرة، ولذا تراهم عدوا الاستدلال من الأثر على المؤثِّر تحولٌ من الحُجة.
وبعد ذلك نقول: إن أحوال العرب قبل مبعثه صلى الله عليه وسلّم غير خافية على من له شيء من الخِبرة، فإن ظلمات الكفر والطغيان قد كانت متراكمة على ضواحي الدنيا، لم يكن يُعرف الحق من الباطل، ولم يكن فيهم من كان يعبد الله على حرف، وكانت الكلمة الإبراهيمية قد انطمست، والملة الحنفية قد اندرست وانعدمت، ومصابيح الهداية أطفئت، ورياح العلوم الحقة ركدت،