في «شرح المنية» الاستحباب. وعن الحسن بن زياد بالوجوب، نحو ما اختاره الشيخ. ويمكن الجواب عن استدلاله بأن قوله:«ثم افعل ... » إلخ لا يَرْجِعُ إلى القراءة وإن جعله الشيخ محطًّا، بل المحطُّ عندنا هو التعديل، لأنك قد علمت فيما مرَّ أن هذا الرجل قد كان خفَّف في صلاته وترك التعديل، كما في لفظ الترمذي:«فأَخفَّ في صلاته». وإذن التَّبَادُرُ أن أمره يَنْصَرِفُ إلى ما قَصَرَ فيه، لا إلى القراءة. ثم ذكر له بعض الأشياء تكميلا وتتميمًا، وجعل الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى محطِّه الفاتحة وسورة.
ثم إن كنت سَمْحًا تَقْدِرُ أن لا تُنَازِعَ المُخَاطب قبل أن تفهم كلامه، فاعلم أن الأمرَ لمطلق الطلب عندي، فيندرجُ تحته الوجوب والاستحباب معًا، لا على طريق القول بعموم المجاز، ولا الجمع بين معاني المُشْتَرك، بل على ما هو رأي المَاتُرِيدِي. فإِن الأمرَ - مثلا - اضرب حكايةٌ من قوله: افعل فعل الضرب، ونحو: صلِّ حكايةٌ من قوله: افعل فعل الصلاة. وحقيقةُ الصلاة لا تختلف بين الفريضة والنافلة، فتتناول كِلْتيهما، وهكذا الصومُ والحجُّ كلُّه يتنوَّع وينقسم إلى الفريضة، والواجب، والمندوب مع اتحاد الحقيقة في كلِّها. فإذا وُسِّع التفصيل في المحكي عنه مع اتحاد العبارة، فليكن في الأمر أيضًا. كيف، وهو حكايةٌ عنه فكما أن الفريضةَ، والواجبَ، والمستحبَ كلَّها تدخُلُ في لفظ الصلاة بدون تكلُّف، كذلك فلتدخل كلُّها في الأمر، ويكون الأمر لطلب تلك الحقيقة فقط على صفتها التي في الخارج. وليس هذا من الجمع بين معاني المُشْتَرَك في شيءٍ، بل هو طلبٌ للحقيقة المختلفة بحَسَب الأنواع.
فالتنوُّع في الأمر ليس من قِبَل نفسه ومدلوله، بل من جهة اختلاف تلك الحقيقة، فإِن كانت واجبةً يكون طلبها أيضًا واجبًا، وإن غيره فغيره. وهل يَلْصَق بالقلب أن مِصْدَاق قوله تعالى:{صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا}[الأحزاب: ٥٦] هو الصلاة التي صلَّى عليه مرةً في عمره، والباقية خارجة عن مِصْدَاقه، بل الأمر فيه لطلب مطلق الصلاة على النبيِّ: إن كانت واجبةً فوجوبًا، وإن كانت غيره فغيره. وليس هذا الاختلاف من جهة الأمر، بل لاختلاف تلك الحقيقة بعينها. وإذا فَهِمْتَ أن اللفظَ الواحدَ يُطْلَقُ على الأنواع المختلفة في زمانٍ واحدٍ، ولا يكون ذلك عندهم مجازًا، ولا جمعًا بين معاني المُشْتَرَك، فكذلك الأمر لطلب هذه الحقيقة، وإن اختلفت بحَسَب العَوَارِض.
فاعلم أن قوله:«افعل في صلاتك كلِّها» أيضًا يتناول الوجوبَ والاستحبابَ، فمعناه: أن اقرأ القرآن في كلِّ الصلاة، فمتى كان واجبًا فوجوبًا، ومتى كان مستحبًا فاستحبابًا. وحينئذٍ جاز أن تكون القراءةُ واجبةً في الأُوَلَيَيْنِ، ومستحبةً في الأُخْرَيَيْن مع دخولها تحت أمرٍ واحدٍ، ولا يَثْبُت ما رامه الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله. أمَّا دخول الأنواع المختلفة تحت لفظٍ واحدٍ، فالاتحاد حقيقة الفرض والنفل، وإنما الفرقُ من حيثُ لُحُوق الأمر وعدمه، وذلك من العَوَارِض، فلا تختلف بها الحقيقةُ. وأَبْعَدَ من ذهب إلى تبايُن تَيْنِكَ الحقيقتين، وقد قرَّرناه من قبل، والتفصيل في «فصل الخِطَاب». وبعد، فلي بعض تردُّد في استحباب القراءة في الأُخْرَيَيْن