للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وحقيقةُ البينونة لا تتحقَّق في الرواجع، فلا تَقَعُ منها إلا بائنة، نعم تتنوَّعُ إلى بَيْنُونَةٍ حقيقةٍ، وغليظةٍ. وإنما سَمَّيناها كناياتٍ مع كونها عواملَ بموجباتها، لاستتار المراد لا غير. فلا تَفْهَمُ من لفظ: أنتِ بائنٌ، إنكِ أيّ البَيْنُونَتَيْن أَرَدْتِ؟ أَمِنْ أوليائها، أو من الزوج، أو غيرهما؟ فإذا لم يَنْكَشِفْ مراده سمَّيناها كنايات لذلك. فلا فرقَ بين الصريح، والكناية إلا بحَسَبِ وضوح المراد في الأول دون الثاني.

إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم أن التوفِّي في الموت كناية أصولية، فهو حقيقةٌ بجتة، لأن معناه أخذ الشيء وافيًا وذلك يتحقق في الموت أيضًا. إلا أن العوامَّ لا يُراعون هذه الدقائق، فيفهمون أن لفظ التوفِّي إذا استُعمل في الموت، فكأنه خرج عن معناه الموضوع له، وليس كذلك. ولذا قال أبو البقاء في الكُلِّيات»: التوفِّي: الإماتة، وقبض الرُّوح، وعليه استعمال العامة. أو الاستيفاء، وأخذ الحق، وعليه استعمالُ البُلَغَاء.

واعلم أن ما يدّعيه هذ اللعين أن التوفِّي معناه الموت حقيقةً، فجهلٌ قطعًا، كيف ولا تتمكَّن العرب من أن تَسْتَعْمِلَهُ في الموت بحسب عقيدتهم، وإنّما علَّمه القرآن، فمن تعلَّمه منه. قال تعالى في سورة السجدة: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١)} [السجدة: ١٠ - ١١]، وقد تحيَّر المفسِّرون في وجه الردِّ عليهم، حيث أَنْكَرُوا البعثَ بالموتَ، فردَّ عليهم بالتوفِّي، فما تقريرُ هذا الردِّ؟ وقد تنبَّه له الشاه عبد القادر، وقرَّرَهُ حسنًا. والرازي أيضًا في «تفسيره».

وحاصلُ كلماتهما: أنهم فَهِمُوا بحسب عقائدهم السيئة، أن الإِنسانَ بعد الموت يَتَلاشَى في الأرض، ولا يَبْقَى من رَسْمِهِ واسْمِهِ شيءٌ، فاسْتَبْعَدُوا البعثَ، لأن المعدومَ لا يَعُودُ عندهم. فأخبرهم الله تعالى بحقيقة الموت، لِيَنْهَدِمَ مبناهم الفاسد من الأصل، فقال: إن الموتَ ليس إعدامًا كما فَهِمْتُم، بل هو عبارةٌ عن التوفِّي، فَيُؤْخَذُ شيءٌ دون شيءٍ، فالجسدُ يَتَلاشَى إلا عَجْبَ الذَّنَب، والروحُ تَبْقَى، فكان الجُزْءَان مَحْفُوظَيْن عند ربك، ففي الموت استيفاءٌ لا أنه إعدامٌ، فإذا كان الجسدُ والروحُ في حِفْظِهِ هان عليه التركيب ثانيًا، قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: ١٠٤]. فتلك الحقيقة هدى إليها القرآن، {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: ٤٣]، فأين كان لهم أن يَسْتعمِلُوه في الموت، وإنما اشتهر إطلاقه في الموت من الدورة الإِسلامية، تعلُّمًا من القرآن. فليس التوفِّي هو الموت، بل يَحْصُلُ الموت بالتوفِّي. ولمَّا كان معناه مفهومًا وحقيقةً، لا عينًا حِسِّيًا لِيُشَاهَدَ، لم يتميَّز معنى الموت من التوفِّي.

وهذا كما قال قدماء النحاة: إن أسماءَ المعاني ليست أمرًا مُبْصَرًا، وكما قالوا: إن الأسماءَ إمَّا أسماءُ أشباحٍ، أو أسماءُ أفعالٍ، والقسم الثاني لا يُدْرَكُ بالبصر. فهكذا التوفِّي ليس أمرًا مُبْصَرًا، كالقبض في الفِقْهِ. فلذا لم يتعيَّن بَعْدُ، فقيل: بالقبض حقيقةً، وقيل: برفع علائق المالكية، وقيل: برفع المَوَانِع، كما سَتَعْلَمُ.

والحاصلُ: أن كم من ألفاظٍ وضعها أهلُ اللغة لدفع حوائجهم، فَيُطْلِقُون، ويُرِيدُون

<<  <  ج: ص:  >  >>