للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

له الخَيْرَ، وذلك كان دعاءه. لا أَنَّه يرى رُؤيا، أو يُكلِّمه مُكلِّم وإن أمْكِن ذلك أيضًا.


= مولانا الهمام شِبير أحمد متعنا الله بطولِ بقائه على مرور الليالي ومضي الأيام. فرأيته يَفِيضُ العلومَ على مَن حضر من العلماء على دأبه بعد الجُمعات، فكان من حديثه يومئذٍ تلك المسألةُ فخاضَ فيها وأطال الكلامَ وأسهب، فوجدت منه لعطشي ريًّا، ولدائي دواءً، ولصدري شفاء، فأردت أَن أبلغ مِن كلماتِه تلك إلى مَن لم يحضروه، فإن للغائبِ على الشاهد حقا، فَربَّ مبلغ أوعى من سامع. ولعله يكون من المئين واحدٌ قد عني بتلك المعضلة وقاساها، فينظر إلى تلك الكلمات ويقدر قدرها ويصلني ولو بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاةَ لمن لم يقرأ بها. فها أنا ذا أقولُ على ما فهمت مِن كلامه وَوَعَيت عنه، أنه لا وَعد في الحديث بجنوح القلب ولا بالانشراح، ولو كان كذلك لَعَلمه فيه أن يدعو رَبَّه بأن يصرِفَ الله قلبه إلى الأَصلحِ وليس فيه ذلك. والذي فيه دعاؤه أن يَصرِفَ عنه السوء هو، وَيقدِرُ له الخيرَ هو حيث كان. ومعنى قوله: واصرفني عنه، أي فيما كان له جنوح إليه وطمع فيه. ومعنى قوله: واصرفه عني، أي إذا لم يكن له ذلك. فالصرف والتقدير كلاهما من فِعل الجَبَّار يفعل هو كيف يشاء، أمَّا فِعْل العَبد فليس إِلا الدعاء. ثم التقدُّم إلى أيِّ جانب شاء، فاِن فيه يكون خيرُهُ بمعنى أنه لا يوفق ولا ييسر له إِلا جانب الخير. فكأن دعاءَ الاستخارة عَمَلٌ يُوجب له الخير تكوينًا.
وبالجملة أَن المستخير لما أَسلَم نَفسَه للهِ. وفوَّض أَمرَه إليه، واستقدر بقُدرَتهِ، ورضي بخيرَتِه، ودعاه أن يُتقِذه من الشر واستوكفه الخير، قَبِل الله عز وجل ذلك مِنه فَقَدَّرَ له الخَير وأعاذَه من الشر وستَره في كنفه، وحينئذٍ ما يُفعَلُ بعده لا يكون إِلا خيرًا وإن تقدَّم إليه عن كره في باطنه. ولما كان ذلك قولًا يستغرِبُه العلماء أتى بمأخذه أيضًا. ففي "طبقات الشافعية" من خاتمة المجلد الخامس ص (٢٥٨) ج ٥ عن الشيخ كمال الدين أَنه كان يقول إِذا صلى الإنسان ركعتي الاستخارة لأَمر فليفعل بعدها ما بدا له سواء انشرحَت نَفسُه له أم لا، فإن فيه الخيرَ وإن لم تَنشَرح له نَفسُهُ، وليس في الحديث اشتراط انشراحِ النفس. اهـ. وإليه إِشارة في كلام عز الدين بن عبد السلام. فراجع الجزء الثالث عشر من "الفتح" من الدعوات.
ثم انتقل الشيخ دام ظِلُّه إلى بيان أسرار هذا الدعاء مع وَجَازته. فذكر فيه كلامًا عن الحافظ ابن تيمية، نقلَه تلميذه في الجزء الثاني من "مدارج السالكين" في فصل: "درجة الرضاء" -ص (٦٨) - ثم شَرَحه أحسنَ شَرْح، قال: كان شيخنا رضي الله تعالى عنه يقول: المقدورُ يكتنفه أمران: التوكل قبله، والرضاء بعده، فمن توكَل على اللهِ قبل الفعل، ورضي بالمقتضى له بعد الفِعل فقد قام بالعبوديةِ اهـ. وهذا معنى قولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الاستخارة: "اللهم إني أستخيرك بعِلمِك، وأستقدرك بِقدرَتِك وأسألك من فَضلِك" فهذا تَوكل وتفوِيضٌ. ثم قال: "فإنك تَعلَم ولا أعلم، وتَقدِر ولَا أَقدِرُ، وأَنتَ عَلام الغيوب" فهذا تبرؤٌ إلى اللهِ مِن العِلم، والحَول، والقوة، وتَوسُّل إليه سبحانه بصفاتِهِ التي هي أحَبُّ ما توَسل إليه بها المتوسلون. ثُم سأل ربه أن يقضي له ذلك الأمرَ إن كان فيه مصلحته عاجِلًا أو آجلًا. وأن يَصرفه عنه إِن كانَ فيه مضرته ثم رضني به". فقد اشتمل هذا الدعاء على هذه المعارف الإلهية والحقائق الإِيمانية، التي من جملتها التوكل والتفويض قبل وقوع المقدور والرضاء بعده. وهو ثمرة التوكل إلخ.
قلت: ولما عَلِمت مِن كلام الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى أن في دعاء الاستخارة تعليمًا لأصل التوكل، وترغيبًا لتحصيل أعلى مدارِجه عَلِمت أن مَنْ دعا بهذا الدعاء، فقد توكَل {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: ٣] وحينئذٍ ظهر لك السر في تقدير الخير للمستخير تكوينًا فإن التكلم بتلك الكلمات وإن كان هينًا، لكن القيامَ بحقِّها لا يتيسر إلا لِمَن يَسره الله، نعم عظم الجزء بعظم البلاء. لكن الله سبحانه بِمَنْه وفَضله قد قَبِل مِنا التكلمَ بها فقط، ونرجو منه أن يعاملنا بعده بما يعامِل به مَن يقومون بحقها، وللأَرض مِن كَأسِ الكرامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>