واعلم أن الصلاة عبادة جامعةٌ كاملة تَقصُر عن إدراك أسرارِها الأفكارُ، وتَعجِز عن نيل حقائقها الأبرارُ، ولا سيما الصلاةُ المحمدية، فإنها كانت خبيثة آثر بها الله تعالى تلك الأمة المرحومة بطفيل سيدِ المرسلين. والأمم السابقة وإن فازوا بتلك الحقيقةِ لكن لصلاتِنا فَضلٌ عَرَفه أولو الأبصار، وأما جهلاء الفلاسفة فأَين هم من تلك النعمة، فجدُّوا واجتهدوا، وصرفوا الأعمار واقتحموا الغمار، فلم يدركوا إلا ما أدرك الكُسَعِي لَمْا استبانَ النهارُ، أو الفرزدقُ حين أبان النوار، فها أنا أذكر لك من أسرارها بعضَ ما سمعتُ من شيخي رحمه الله تعالى. فاعلم أن الإيمانَ أَوَّلُ الواجبات، ثم سترُ العورة، ثم الصلاة، فهي الفريضة الثالثة جعلها الله تعالى فريضة على الأمة المحمدية ليعبُدُوه بعبادة يَغْبِط بها الأولون والآخرون، فإن طرق التعظيم في الأقوام كلها انحصرت في أربع: إما بالمثول بين يديه، أو بانحناء الرأس لديه، أَو بِوَضْع الجبهة، أو بالقعود على ركبتيه، فجعلها اللهُ تعالى كلها ماد للصلاة، وأركانًا. ولما كان السجود من أقصى مراتب التذلل، خَصَّ الله تعالى بها نَفسه وحَرَّمه على غيره كائنًا مَن كان من الأنبياء والأولياء في الحياة وبعد الممات. وأما الرُّكوعُ فكان دونَه فلم يحرِّمه، ولكنه جعله مكروهًا تحريمًا، كما في "العَالمَكِيرية": أن الانحناء عند الملاقاة مكروهٌ تحريمًا. فهذان من الأربع جعلهما الله تعالى لنفسه بقي اثنان، أي القيام والقعود، فتركها بين العبادِ ليلعبوا بهما كيف شاؤوا. ولما كانت الأذكار أَعلاها التسبيحُ والتكبيرُ والتحميدُ جعلها عند الانتقالاتِ لينطق اللسانُ بما تفعله الجوارحُ، فكانت هذه لُحمةَ الصلاة وتلك سَدَاها، وفي "تاريخ ابن عساكر": أن موسى عليه السلام كُشف له قومٌ يُكَبِّرون اللهَ عند كل شَرَف، ويسبحونه عند كُل =