واعلم أنَّ مسألة كلام المَيِّت وسماعِهَ واحدةٌ وأنكرها حنفيةُ العَصْر. وفي رسالةٍ فير مطبوعة. لعليِّ القاري: أنَّ أحدًا من أئمتنا لم يَذْهَب إلى إنكارِها، وإنما استنبطوها مِن مسألةٍ في باب الاييمان، وهي: حلف رجلٌ أن لا يكلِّم فلانًا فكلَّمه بَعْدَما دُفِن لا يَحنَث، قال القاري: ولا دليلَ فيها على ما قالوا، فإِنَّ مَبْنَى الأَيْمان على العُرْف وهم لا يُسمُّونه كلامًا، وأنكره الشيخ ابنُ الهمام رحمه الله تعالى أيضًا في «الفتح»، ثم أَوْرَد على نَفْسه: أنَّ السَّماع إذا لم يَثْبت فما معنى السَّلام على القبر؟ وأجاب عنه: أنهم يسمعون في هذا الوقت فقط، ولا دليلَ فيه على العُموم. ثُم عاد قائلا: أنه ثَبَت منهم سَماعُ قَرْع النِّعال أيضًا: فأجابَ عنه بِمثْله.
أقول: والأحاديثُ في سماع الأمواتِ قد بلغت مَبْلغَ التواتر. وفي حديثٍ صحَّحه أبو عمرو: أن أحدًا إذا سَّلَّم على الميتِ فإِنه يَرُدُّ عليه، ويعرِفُه إن كان يَعْرِفُه في الدَّنيا - بالمعنى - وأخرجه ابن كثير أيضًا وتردَّد فيه. فالإِنكار في غير مَحَلِّه، ولا سيما إذا لم يُنقل عن أحدٍ من أئمتنا رحمهم الله تعالى، فلا بد من التزام السماع في الجملة، وأما الشيخ ابن الهمام رحمه الله تعالى فجعلَ الأَصْل هو النَّفّي، وكلَّ مَوْضِع ثبت فيه السَّماعُ جَعَله مستثنًى ومقتصِرًا على المَوْرد.
قلت: إذن ما الفائدة في عُنوان النَّفي؟ وما الفَرحق بين نفي السَّماع، ثُم الاستثناء في مواضِعَ كثيرةٍ، وادعاء التَّخصِيص، وبين إثبات السَّماع في الجملة مَعَ الإِقرار بأنا لا ندري ضوابِطَ أسماعِهم، فإِنَّ الأحياءَ إذا لم يَسْمعُوا في بَعْضِ الصُّوَرِ فمن ادَّعى الطَّرْد في الأموات، ولذا قلتُ بالسماع في الجملة، بقي القرآنُ فأَمْرُه صَعْبُ، قال تعالى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}[النمل: ٨]، وقال:{وما أَنْتَ بِمُسمِعٍ مَنْ في القُبُورِ}[فاطر: ٢٢]، وهو بظاهِرِه يدلُّ على النَّفْي مُطلقًا، فقبل بالفرق بين السَّماع، والإِسماع، والمَنْفي هو الثاني دون الأَول، والمطلوبُ هو الأوَّل دونَ الثاني، وأجاب عنه السّيوطي:
*سماعُ مَوْتى كلام الخُلْقِ قَاطبةً ... قد صَحَّ فيها لنا الآثارُ بالكُتُبِ
*وآيةُ النفي معناها سَمَاعُ هدىً ... لا يَسْمَعُون ولا يُصْغون للأَدَبِ
قلت: نَزَل الشيخُ رحمه الله تعالى فيها على الغَرض. وحاصل الآية على طَوْره: أنَّ هؤلاء الكفارَ كالمَوْتَى، فلا تَنْفع هدايتُك فيهم، لأن نَفْعها إنَّما كان في حياتِهم وقد مَضَى وَقْتُها، كذلك، هؤلاء وإنْ كانوا أحياء إلاّ أنَّ هدايتَك غيرُ نافعةً لهم، لكونِهم مِثْلَ الأمواتِ في عدم الانتفاع، فليس الغرضُ منه نفيَ السماع بل نفي الانتِفاع.
قلت: عدمُ السَّماع والسَّمْع والاستِماعِ كُلّها بمعنى عَدَم، العمل، لأنَّ السَّمْع يكونُ للعمل، فإِذا لم يَعْمَل به فكأنَّه لم يَسْمَعْه، تَقولُ، قلتُ له مرارًا أن لا يتركَ الصلاةَ، لكنْه لا يَسْمَعُ كلامي، أي لا يعمل به، يُقال في الفارسية نشنود، يعني عمل نمى كند، فلو قال الشيخ رحمه الله تعالى: إنَّ مَن في القبور لا يعملُون لدُخعل الكلامُ في اللغة، ولم يبق تأويلا، بل الأحسنُ أن يُقال: مانتى نهين، فإِن قلت. إِنَّ الأمواتَ إذا ثَبَت لهم السَّماعُ، فعل لهم الانتفاعَ به أيضًا أو مجردُ سماعِ الصوتِ فقط.