للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يكن يَخْرج عن المدينةِ إلا بعد ما يَنْصِبُ لهم إمامًا يصلِّي بهم وفي «الطبقات» لابن سعد: «أنه نَصَبَ ابنَ أُمِّ مكتوم أمامَ المدينةِ مرةً. فكان يؤذِّنُ ويؤمُّ بهم». ولا أرى أذانَه بالليلِ إلا في تلك الأيامِ. وقد مرَّ البحثُ في أذانه: أنه كان دائمًا أوفي زمنٍ معيَّنٍ؟ والظاهر هو الثاني. فإن بيتَه كان بعيدًا، وقد كان استَرْخَص النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أيضًا في عدم حضورِ الجماعة. فقال له: هل تسمع التأذين؟ قال: نعم. فلمْ يُرَخِّص له. فَدلَّ على أَنَّ المؤذِّنَ كان غيرَه.

وبالجملةِ قد يَسْبِقُ إلى الذِّهْنِ أنا لو سلَّمنا أنَّ أذانَه كان بالمجسد النبويِّ، وكان قَبْل الفَجْر فلعلَّه كان في زمنِ إمامَتِه بالمدينةِ. فإذا دريتَ أن نَصْبَ الأئمةِ كان داخلا في ولايةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم عَلِمْت أنه لم يكن لأَحَدٍ أن يُصلِّي بها إلا بعد نَصْبه من جهةٍ، فإذا صلَّوا عليها فقد غَلِطُوا. ولذا أعادها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم على قَبْرِهَا، لأنه كان وَليًّا. وفي عامة كُتُب الحنفيةِ: أنَّ الصلاة على القبر إنَّما تَصِحُ للوَلِيِّ فقط إذا لم يكن صلّى عليه وفي «المبسوط» جوازُ الإعادةِ مطلقًا لغير الولي أيضًا إذا أعادها الولي.

قلتُ: وهذا أَيْسَرُ في الأحاديثِ. فظهر منه أنَّ إعادةَ صلاتِهِ صلى الله عليه وسلّم كانت من باب الولايةِ، لا مِنْ بابِ الصلاةِ على القبر ثُمَّ. أَمْعِن النظرَ في قوله: «ولا يَجْلِسِ الرَّجُلُ على تَكْرِمَتِهِ في بيته، ولا يَؤُمَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ إلا بإِذْنِه». يفيدك أنَّ هؤلاءِ الذين صلُّوا عليه بدونِ إذنهم من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قد جاؤا بأَمْرٍ عظيم. فإنَّ الجلوسَ على التَّكْرِمة في البيتِ والصلاة بدون الإذن في ولايته من باب واحدةٍ على أنهم لم يُوْقِظُوه صلى الله عليه وسلّم لِخِفَّةِ أمره في أذهانِهم. فقويَتْ داعيةُ الصلاةِ لذلك أيضًا (١). فإنَّه رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَر لو أَقْسَمَ على الله لأبرَّه. فإذا احتفت هذه الصلاةُ بِمثل هذهِ القرائن قَصَرْنَاهَا على مَوْردها، ولم نجعلها سخنةً قائمةً وشريعةً مستمِرَّةً (٢).

أما الصلاةُ على الغائب ففيه على ما مرَّ أنه لم يكن بالحبشةِ أحدٌ يُصلِّي عليه (٣) فصلى عليه لذلك. مع ما عند ابنِ حِبان في «صحيحه» عن عِمران بن حُصَين أن الصحابةَ رضي اللَّهُ تعالى عنه كانوا لا يَظُنُّون إلا أَنَّ جنازَتَه بين يديه، فقد كانت جنازتُهُ كُشِفت له صلى الله عليه وسلّم وحينئذٍ لم تبق من باب الصلاةِ على الغائب، وبالجملةِ لا تُترك سنةٌ فاشيةٌ مستمرةٌ لأَجْل الوقائعِ الجزئيةِ


(١) ويؤيده السياق عند مالك في "موطئه": أن مسكينة مَرضت فاُخبر رسولُ اللهِ بمرضها. قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودُ المساكين ويسأل عنهم. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ماتت فأذنوني بها فخرج بجنازتها ليلًا فكرِهوا أن يُوقظوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما أصبحَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أُخبر بالذي كان من شأنها. فقال: ألم آمُرُكم أن تؤذنوني بها" إلخ.
(٢) قال الشيخ بدر الدين العيني: ووقع في كلام ابن بَطَّال تَخْصِيصٌ، ذلك بالنجاشي فقال: بدليل إطباقِ الأمة على تَرْك العمل بهذا الحديث. قال: ولم أجد لأحدٍ من العلماء إجازةَ الصلاةِ على الغائب إلا ما ذكره ابنُ زيد عن عبد العزيز بن أبي سَلَمة فإنه قال: إذا استؤذن أنه غرق أو قتل أو أكله السباع ولم يوجد منه شيء صلى عليه كما فعل بالنجاشي. وبه قال ابن حبيب. وقال ابن عبد البر: أكثر أهْل العلم يقولون إن ذلك مخصوصٌ به. وأجازه بعضهم إذا كان في يوم الموت أو قريب منه. وفي "المصنف" عن الحسن: إنما دعا له ولم يُصل عليه.
(٣) قال ابن العربي: قال أَبو داود، وإنما صَلى عليه النبي لأنه كان مُسلمًا وليه أَهْل الشرْك في بلدٍ آخر فلم يكن لهم مَنْ يقوم بسنة فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بها اهـ "العارضة".

<<  <  ج: ص:  >  >>