للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فالفِطْرة كالقارورة إن حَفِظتها من التصادم تبقى في يدكِ سالمةً أبدَ الدهر، وإن تغافلت عنها تَتَكَسّر بأدنى صَدْمة تُصِيْبُهَا.

ثم ذكر الشيخُ الفَرْقَ بين الفطرةِ ولاشقاوة. فقال:

*فكان الشقيُّ على فِطْرةٍ ... وأمَّا الشقاءُ ففي عائده

فالشَّقْيّ أيضًا كان على الفِطْرة في بدءِ أمره، لكنَّه لما لم يَحْفَظهَا وغيرها صار مآلُهُ إلى الشقاوةِ، فالفِطْرة لا تناقِضُ الشقاوةَ، ألا ترى أن الحديثَ بنفسه حَكَم على كلِّ مولودٍ بالفِطْرة، ثُمَّ ذَكَرَ شقاوتهم وهو اليهودية والنصارنية، فدل على أنَّ الشقاوةَ لا تصادِم كونَه على الفِطْرة فافهم. وقد نبهناك فيما مرَّ أن التعدية في العربية هل تثبتت على طريق الفارسية أيضًا أم لا؟ بأن تدل على تسخيرِ أحدٍ بذلك الفعلِ واستعمالِهِ به، كما إذا أَمَّن عند المالكيةِ (جب آمام آمين كهلواوى). قال أبو حَيّان: إنَّ تعديةَ الأفعالِ مطردٌ والتفعيل سماعي. وقال بعضهم: إنهما مُطردان. وقال آخرون: إنهما سماعيان، ولكن ينبغي أن يُنْظر في معنى التعدية ماذا أرادوا به والذي أرى أنَّ التعديةَ بهذا المعنى ليس عندهم إلا ما مرَّ في قوله: «لم يغسلهم» من التفعيل، وكذا في قوله: «يَهوَّدانه وينصَّرانِه» فلينظر فيه.

وحينئذٍ فحاصل الحديث: أنَّ كلَّ مولودٍ يولَدُ على الفطرة باعتبار الأَصْل. وأمَّا يهوديتُهُ ونصرانيتُهُ فباعتبار جَعْل الوالدَين وتغييرِهم خَلْقَ الله وَمَسْخهم فِطْرَتَه لا باعتبار الأصل، فإنْ قُدِّر ذلك حتى آلَ إليه الحالُ سُمِي بالشقاوةِ.

فإن قلت: إنَّ الفطرةَ إذا كانت مقدِّمة للإيمان دون الإيمان بعينه، لم يتناسب مقابلَتُهُ بالأديان كالهيوديةِ والنصرانيةِ، فدلَّ على أنها عينُ الإِسلام، لأنَّه أيضًا دِيْنٌ فَصَحَّ التقابل. قلت: بل التقابل صحيحٌ على ما قلت أيضًا، لأن المعنى أن الولد كان قريبًا من الإسلام، فَضَيَّع والداه فِطْرَته فأضاعوه، وأيّ شيءٍ أضاعوا. فإن قلت: إن الحديث يقتصر حينئذٍ على أحكام الدين عبدت فطرتهم. وأما من استمروا على فِطْرتهم كَذَرَاري المسلمين فلا يكونُ لهم فِيْهِ حُكْم.

قلتُ: بلى، ولكنَّ الحديثَ لم يُسق لهم، وإنما سِيق لِمَنْ صاروا إلى الكُفْر بعد التبديل كما ترى في المُشَبَّه به، ففيه أيضًا بيانُ المُغَيِّراتِ. وحينئذٍ تَبيَّن لك أنه لا ينبغي فيه ذِكْر الإسلام، فإنَّه ليس من المُغَيِّرات.

قوله: ({لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}) [الروم: ٣٠] نهى في صورة الخَبَر. والمعنى أنَّ عَدَم التبديلِ كان الدِّيْنَ القَيِّم ولكن الناس يشاقونه ويخالفَونه، وإلا فالتبديل مُشَاهد. فإن قلت: يلزمُ على ما اخترتَ مِنْ تفسير الفطرةِ نحاةُ أولاد المشركين كافَّةً، فإنَّهم ماتوا على الفِطْرة قبل طُرُو التبديل.

قلتُ: النجاةِ تدورُ على الشقاوةِ والسعادةِ وهي في عِلْم الله لا على الفِطْرة فقط، وإن كانت الفطرةُ دخيلةً أيضًا إلا أنَّ المدار على الشقاوةِ والسعادة السابقتين على الفطرة لما قد علمت أنهما من التقدير، وهو نَحْوٌ من العِلْم السابق على الكل. ولذا ذكر في الحديث إنتاج

<<  <  ج: ص:  >  >>