ثم صرح بعد ذلك بتقويته مذهبَ الحنفية، فأخذتهم عجلةً، كما تأخذ المرء عند الظَّفَرِ بالمقصود، فحملوها على العموم في المقدار، وزعموا أنه يُؤيدُهم في مسألة اشتراط النصاب أيضًا، مع أنه لم يتكلم في تلك المسألة بحرف. وأقوى المذاهب في المسألة مذهب أبي حنيفة رحمه الله دليلًا. وأحوطها للمساكين. وأولاها قيامًا بشكر النعمة، وعليه يدل عموم الآية، والحديث، أي "فيما سقت السماء والعيون العُشر" ... إلخ. وقد رَام الجُويني على تحقيقه أن يُخرِجَ عمومَ الحديث من بين يدي أبي حنيفة رحمه الله، بأن قال: إن هذا الحديث لم يأت للعموم، وإنما جاء بتفصيل الفرق بين ما تقل مُؤنَتُه وتكثُر، وبدأ في ذلك وأعاد، وليس يمتنعُ أن يقتضي الحديثُ الوجهين: العموم، والتفصيل، اهـ. وعبارته من الموضع الثاني ذكرها في باب صدقة الزرع والتمر والحبوب وهذا نصه: إن في قوله: "فيما دون خمسة أوسق" دليلٌ على أن وجوبَ الصدقة في كل شيءٍ يجري فيه الوَسق والصاع، قال الله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقال عليه الصلاة والسلام: "ليس فيما دون خمسة أوسق صَدَقة" فخرج ما دون النصاب من الآية ... إلخ، وهذا لأن كان فيه نحو تعرض إلى مسألة النصاب، إلا أن الآية فيه ليست التي ذكرها في باب زكاة الخَضْراوات، والبحث إنما هو في عمومِها، هل هو في حق الأنواع والنصاب كليهما، أو في حق الأنواع فقط؟ ثم لا يذهب عليك أنه ذكر العمومَ في الآية، والحديث كليهما. ثم رد على الجُوَيني في إخراجِهِ عمومَ الحديث فقط من يد أبي حنيفة رحمه الله، ولم يتعرض فيه إلى عموم القرآن أصلًا، كما يظهر من تقريره، فاحفظه، فإنَّه قد يسري إلى الوهم أن رده على من أراد أن يخرح من يده عموم الآية، وليس فيه ذلك، ولا لوم فيه، فإنه من سجية الإِنسان أنه إذا ظَفِرَ بمقصوده تأخذه عجلةٌ تمنعُه عن الفحص والإمعان، فهذه عبارته من "شرحه للترمذي". أما عبارته في "تفسيره"، فمن تفسير تلك الآية، وقد أفادت هذه الآية: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: ١٤١] إلخ وجوبَ الزكاة فيما سمَّى الله سبحانه، وأفادت بيانُ ما يجب فيه من مُخرَجَات الأرض التي أجملها في قوله: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: ٢٦٧] وفسرها ههنا، فكانت آية البقرة عامة في المخرج كله، مجملةٌ في القَدر، وهذه خاصة في مُخرَجَات من الأرض مجملةٌ في القدر، فبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي أمر بأن يُبينَ للناس ما نُزِّل إليهم، فقال: "فيما سقت السماء العُشْر، وما سقي بنَضحٍ أو دالية نِصفُ العُشر" فكان هذا بيانًا لمقدار الحق المجمل في هذه الآية، وقال أيضًا - صلى الله عليه وسلم -: "ليس فيما دون خمسةِ أوسقٍ من حَبٍّ أو تمرٍ صدقة" خرجه مسلم وغيره، فكان هذا بيانًا للمقدار الذي يؤخذ منه الحق، وهو الذي يُسمَّى في ألسنةِ العلماء نصابًا. اهـ. فهذه العبارة كما ترى تنادي بأعلى نداءٍ: أنه لم يعتبر العموم في قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} في حق النصاب، وإنما أجراه في مُخرَجاتٍ من الأرض. فتلك من مُبدِعَات الشيخ رحمه الله، حيث كان الناسُ يفرحونَ ويفتخرون بتأييد القاضي لهم، فلما أبرزه الله على وجه الأرض، جاء وكشف عن حقيقة الحال من غير مرية، ولا دعوةِ نزال، فإن كنتَ ربَّ هذه الضالة فخذها مِن مُنشِدٍ غير ممتنٍ، وإلا فسوف يأخذها ربَّها إن شاء الله تعالى.