وكان يأمرُهم بالإِفراد، وحينئذٍ فمحطُّ الإِتمام النهيُ عن هذين، كأنه رآهما خلافَ الإِتمام.
قلتُ: والذي ظَهَر لي أن الأمر ليس كما فهمه الشارحون، ولا كما زعمه النووي، بل أراد عمرُ أنْ لا يصيرَ البيتُ مهجورًا، فإِن في القِرَان والتمتُّع أداءً للنُّسُكين في سفرٍ، سواء تحلل في البين أو لا. وذلك يوجبُ أن لا يتردد الناسُ إليه بخلافهم في الإِفراد، فإنَّه يجبُ عليهم العوْدُ إليه ثانيًا للعمرة، فأحبَّ أن يزارَ البيتُ مرةً بعد أخرى. وحينئذ فتقرير كلامه، حسَبَ مُرَامه، ما ذكره عبد الله ابن عمر، عند الطحاوي، قال:«إتمام العمرة أن تُفْرِدُوها من أشهر الحج، والحج أشهرٌ معلومات، فأخلِصُوا فيهنَّ الحجَّ، واعتمروا فيما سواهُنَّ من الشهور»، فأراد عمر بذلك تمامَ العمرة، لقول الله عز وجل:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} اهـ. وعلى هذا، معنى الإِتمامُ أنْ لا يعتمرَ في أشهر الحج، وأن يفصِل بينهما، كما عند الطحاوي عن عمر:«أُفْصلُوا بين حجكم وعمرتكم. فإنَّه أتمُّ لحجكم، وأتمُّ لعمرته أن يعتمرَ في غير أشهر الحج». اهـ.
ثم اعلم أن الإِفراد على نوعين: الأول ما هو المشهور. والثاني: ما ذكره محمد في «موطئه»: وهو الإِفراد في السفرين. ولا ريب أنَّ الثاني أفضلُ من القِرَان، صرح به محمد، ولم يَنْقل فيه خلافًا عن الشيخين، فهو المذهب عندي. أما الخلاف في المفاضلة بين الإِفراد والقِرَان والتمتع، فهو بمعناه المشهور، أما في المعنى الذي ذكرناه، فلا خلاف فيه، وهذا الذي أحبَّهُ عمر، وأراده من إفراد الحج، ولا خلافَ فيه لأحدٍ، كما علمت هذا في نهيه عن القران.
بقي نهيُه عن التمتع، فلعله كان مفضولا عنده، لأنه يوجبُ التحلُّل في البين، مع أن المطلوبَ تمادي الإِحرام. وهذا هو الذي كرهه الصحابة حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلّم أن يتحلَّلوا ويفسخوا حجَّهم إلى العمرة، كما يدل عليه قولهم عند مسلم:«ومَذَاكِيرُنا تقطر المنيَّ» أي كيف نتحللُ، ونجامعُ نساءَنا، ونحن على شرف الحج، فأيُّ حلَ هذا؟ فالكراهة لهذا، لا كما ذكره الشارحون، كما يدل عليه ما عند مسلم، والنسائي فقال عمر: قد علمت أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قد فعله، ولكن كرهتُ أن يظلوا معرِّسين بهنَّ في الأرَاك، ثم يَرُوحوا بالحج تقطُرُ رؤوسهم.
وبالجملة: نهيُه عن التمتع كان لكراهةِ الحِلِّ، وانقطاع الإِحرام، وحينئذٍ فتقريرُ كلامه {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ} ... إلخ، أي لا تُحِلوا في البين، فعبَّر عن الحل في التمتع بعدم الإِتمام.
وصار الحاصل: أن لا تمتعوا، لأنه يوجبُ انقطاعَ الإِحرام المستلزِمِ لعدم الإِتمام. وتحصل من مجموع الكلام: أن القِرَان والتمتعَ يوجبان تركَ الإِتمام. أما القِرَانُ فلأن الإِتمامَ عبارةٌ عن إفراد الحج في أشهر الحج، والقرانُ يخالفه. وأما التمتعُ، فلكونه موجِبًا للحل في البين. فإن قلتَ: فلم أمر النبي صلى الله عليه وسلّم آلافًا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالتحلل مع كونه مكروهًا؟ قلتُ: ردًا لأمر الجاهلية، وتشريعُه عَمَلا، وتوكيدُه فعلا وقولا، فإنَّه كان أواخِرَ أوانِهِ في الدنيا، فأراد أنْ يجعلَ شعائرَ الجاهليةِ كلَّها تحت قدميه، ويَرى الناسُ عِيَانًا أنَّ التمتعَ جائزٌ