فنفي الطاقة مرادٌ بهذا الطريق، لا أنه ذهب إلى تقدير حرف النفي، فإنه لا يقوله عاقلٌ، فكيف بمن كان فردًا في البلاغة. وإذن، حاصل الآية: أن الفِدْية أيضًا كانت مشروعةً يومئذٍ، بشرط أن يَشُقَّ عليهم صيامها، فكانت الفِدْيةُ في تلك الأيام، فنقلُوها إلى رمضان، ثم تأوَّلُوا بكلِّ نحوٍ. نعم يُخَالِفُهُ ما عند البخاريِّ عن سَلَمَة بن الأكوع، فإنه يَدُلُّ على أن الفِدْيَة كانت في رمضان في أول الإِسلام، ثم نُسِخَت.
قلتُ: إن وقع التعارُض بين مُعَاذ، وسَلَمَة، ولم يرتفع، فاتباعُ مُعَاذ أولى، فإنه كان أعلم بالحلال والحرام بنصِّ الحديث. ولا نُبَالي في كون حديثه في أبي داود بعد صحته، وكون حديث سَلَمَة عند البخاريِّ، وإنما يَنْحَصِرُ الترجيح باعتبار الأسانيد فقط عند من لا يُرَاعي الوجوه الأُخر. وقد نبَّهناك فيما أسلفنا أن الأسانيدَ طرقٌ لتمييز كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلّم من غيره فقط، ولولا ذلك لَمَا عَبِأْنَا بها، فالطريقُ أن لا يَعَضَّ بها حتى تُفْضِي إلى ترك كثيرٍ من الأحكام. فإذا صَحَّ الحديث، فَلْيَضَعْهُ على الرأس والعين، ولْيَعْمَلْ به على أنه يمكن تأويله أيضًا، بأن يُقَال: إنه كان ذلك حكم رمضان قبل الهجرة وبعدها بنحو سنة ونصف، فلمَّا فُرِضَ رمضان في الثانية، ونزل قوله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ} ... إلخ، نُسِخَ ذلك. لا يُقَال: ينبغي التناسُب بين العِلَّة والحكم، مع أن الفِدْيَة لا تَرْتَبِطُ بوصف الطاقة، لأنا نقولُ: معناه {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ولم يَصُومُوا {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، وإنما حذف المعطوف لكونه غير مرضيَ عند الله، فإن المطلوبَ هو الصيام، فإذا كِرِهَهُ صَفَحَ عن ذكره أيضًا.
قوله:{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}[البقرة: ١٨٤]، أي فمن زَادَ في الطعام على قدر الواجب، فله في ذلك فضلٌ. إلا أن الفضلَ كلَّ الفضل في الصوم، وإن جازت الفِدْيَةُ أيضًا، ولذا قال: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} إلى قوله: {فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: ١٨٤ - ١٨٥]. ومن ههنا بُدِيء ذِكرُ رمضان وافتراضه، كما علمت {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: ١٨٥] كرَّره لئلا يُتَوَهَّم نسخ الحكم بالقضاء بنسخ الأيام البِيضَ، فصرَّحَ بأن المريضَ والمسافرَ على رخصتهما كما كانا قبل افتراض رمضان. ولم يَذْكُر الافتداءَ في رمضانَ، لأنه كان حين كانت الفريضةُ الأيامَ البِيضِ، وبهذا اندفع التكرارُ المُسْتَبْشَعُ في نظامٍ واحدٍ.
واعلم أن النَّسْخَ عند السلف أكثرُ كثيرٍ، وذلك لأنهم أَطْلَقُوه على تقييد المُطْلَقِ، وتخصيص العامِّ أيضًا، فَكثر النسخُ عندهم لا مَحَالة. ثم جاء المتأخِّرون من الأصوليين فنقَّحُوه، وقالوا: إن النَّسْخَ عبارةٌ عن رفع المشروعية. فَقَلَّ عندهم بالنسبة إلى السلف، حتى إن السيوطي صرَّحَ في «الإِتقان» بنسخ إحدى وعشرين آية فقط، ثم جاء قدوة المُحَقِّقِينَ الشاه ولي الله، فحقَّقه في ستة أياتٍ فقط، وفسَّر سائر الآيات بحيث صارت مُحْكَمَة، ولم تَفْتَقِرْ إلى القول بالنسخ.
ومن ههنا فَلْيُفْهَم معنى التفسير بالرأي. أَما رأيتَ أنهم كيف فسَّرُوها من آرائهم، حتى إن بعضَهم جَعَلُوها منسوخةً، وآخرون مُحْكَمَةً، ثم لا يكون هذا عندهم تفسيرًا بالرأي. فالذي يُمْكِنُ في بيان مراده - وإن لم يَكُنْ وافيًا - هو أن تحريفَ الكَلِم عن مواضعها. وبيانَ مرادها حتى