ثم اعلم أن هنا ثلاثة أعمال: تحقيق المناط، وتنقيحُ المناط، وتخريجُ المناط. أمَّا الأوَّل، فهو أن تَرِدَ ضابطةٌ كليةٌ من جانب الشرع، فتُجرِيها في الجزئيات، نحو أنه وَرَدَ في الشرع: أن الماءَ الكثيرَ لا يتنجَّسُ بوقوع النجاسة فيه، فهذه ضابطةٌ، ثم تَبحَثُ عن الماء المخصوصِ مثلًا أنه ماءٌ كثيرٌ أم لا؟ فهذا تحقيقُ المناط. فالمناط مذكورٌ من جهة الشرع، وأنت تحققه وتُثبِتُه في هذا الموضع فقط، وذلك لا يختصُّ بالمجتهد. وأمَّا تنقيحُ المناط، فهو تَتَبُّعُ المناط لحكم وَرَدَ من قَبلِ الشرع. وذلك من وظيفة المجتهد، فإنه يتفكَّرُ في أن الحكمَ المذكورَ مقصورٌ على المنصوص، أو يدورُ بعلةٍ، كالاستنجاء بالحجارة. فإن الحديثَ وَرَدَ في الاستنجاء بالحجارة، ولكن على المجتهد أن يتفكَّرَ في أن الحكمَ مقصورٌ على الحجارة، أو يدورُ بكل قالعٍ للنجاسة تافهٍ غير محترم، فيتعدَّاها. والثالث: تخريجُ المناط، وهو: أن الحكمَ الشرعيَّ وَرَدَ في محل، وفيه أوصافٌ عديدةٌ يَصلح كلٌّ منها أن يُنَاطَ به الحكم، فَيُخَرِّجُ المجتهدُ منها ما هو المناط عنده، ويَهدِرُ الباقي، كحرمة الربا في الأشياء الستة. فخرَّج مالك: أن المناطَ منها الاقتياتُ والادخارُ وأبو حنيفة: الكيلُ والوزنُ، والشافعيُّ: الطعمُ والثمنيةُ. وقد صَرَّح ابن رُشْدٍ: أن الأسبقَ فيه الحنفية، ومناطُهم أقوى. إذا عَلِمتَ هذا، فاعلم أن الإِمامَ أبا حنيفة لم يَقِس الأكلَ والشربَ على الجِمَاع، ولا شبههما به، بل عَملَ بتنقيح المناط، وحينئذٍ لا يَرِدُ عليه ما أورده القومُ.