ففي تلك الرواية أنه كلما كَثُرَ عملُه قلَّ أجرُه، وقد أجاب عنه الطحاويُّ. ففي "المعتصر"، مع حاشيته عن المصحَّح-: إن وجهه أن يَصُومَ اليوم الأول قوته على قراءة القرآن، والصلاةُ باقيةٌ من غير نقصٍ، فله الأجرُ كاملًا بعشرة كاملةٍ. فأمره - صلى الله عليه وسلم - بالصيام الذي تبقى معه قوته، لِيَصِلَ إلى الأعمال التي نفعها أفضل من الصيام. فلمَّا قال له: زِدْني، زاده يومًا يكون ضَعْفه أكثرَ مما يكون عليه بصيام يوم، لَيُنْقِصُ ذلك حظَّه من هذه الأعمال التي نفعها أفضل، فردَّ ثوابه على اليومين اللذين يَصُومُهُمَا، مع تقصيره عن الأعمال إلى دون ثوابه على صوم اليوم الأول. وكذلك ردُّه في صيام الثلاثة الأيام من الثواب إلى ما دون ثوابه على صيام يومين لهذا المعنى. قال المصحِّح: قلتُ: وفي توجيهه نظرٌ، لأنه يَلزَمُ أن يكونَ صومُ يوم وإفطارُ يومٍ، أقلَّ درجة من صوم يوم في عشرةٍ. وقوله: "أحبُّ الصِّيَام إلى الله صومُ داود" يُنَافِيهِ. والحديث يَحْتَمِلُ أنه - صلى الله عليه وسلم - أجاب عن قوله: مُرْني بصيامٍ، بقوله: صُم يومًا في عشرة أيامٍ، واصرِف السبعَ الباقيةَ إلى الحظوظ المباحة، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لنفسك عليكَ حقًّا، ولزوجكَ عليك حقًّا". فلمَّا استزاده، قال: يومين، ولك ثمانية. وكذا صُمْ ثلاثةً، ولك سبعةٌ. وكذا قال له: صُم أربعةً، ولك ستةٌ بدليل قوله: فما زال يحُطُّ به، حتى قال: "إن أفضلَ الصَّومِ صومُ أخي داود"، وهو أن يَصُومَ خمسةَ أيامٍ، ويكون له خمسةٌ. وجعل هذا أفضل الصيام، فكلما كَثُرَ الصومُ كَثُرَ الثوابُ، لا كلَّما قلَّ كَثُرَ، هكذا وجدنا حاشية الأصل. ثم قال المصحِّح: قال القاضي: تابع الطحاويُّ مُطَرِّفًا على خطأٍ في تأويله، إذ يَلزَمُ منه: أن الحسناتِ لا يُذهِبنَ السيئات، وهو خلافُ النص، والحاملُ لهما على هذا التأويل البعيد: ما رُوِيَ بطريقٍ آخر: "صُم يومًا، ولك أجرُ عشرة أيام. صم يومين، ولك أجرُ تسعة أيام. وصُم ثلاثةَ أيام، ولك أجرُ ثمانية أيام"، لكن إذا ثَبتَ هذا، فتأويلُه: أنه أراد: صُم يومًا من كل أحد عشر يومًا، ولك أجرُ فطر العشرة الأيام التي تُفطِرُ منهنَّ. ويومين، ولك أجرُ التسعة الأيام التي تفطِرُ منهن. وثلاثة أيام منها، ولك أجرُ فِطْر الثمانية. فأعلمه - صلى الله عليه وسلم - أن له فطرُ ما يُفطِر بها أجرًا، لأنه يتقوى به على الأعمال الصالحة. فَنَدَبه من صوم يوم ويومين، إلى صوم يومٍ ويومٍ، مترقيًا من الأدنى إلى الأعلى. وسَكَتَ عن أجر الصَّومِ، لأنه معلومٌ مقرر، بخلاف أجر الفِطر. ألا ترى أن صومَ يوم عَرَفة لغير الحاج أفضل، وفِطرَه للحاج أفضلُ، ويُؤجَرُ على ترك صومه لحاجته إلى التقوي على الأعمال والدعاء. انتهى بمعناه، دون لفظه. قلتُ: ما نَصبِ إليه الطحاويُّ من إضمار ثواب صيامها أظهرُ من إضمار أجر فِطرِهَا، لأن الكلامَ سبَقَ لثواب الصيام، لا لثواب الفِطْرِ، وكل منهما مُحْتَمَلٌ، والتأويل من المجتهد الذي يُخْطِىءُ ويُصِيبُ -وهكذا في الأصل- والله أعلم بمراد قائله، الذي لا يَنْطِقُ عن الهوى، - صلى الله عليه وسلم -. فإن الصومَ كفٌّ عن الشهوات، والفِطْرَ إقدامٌ عليها، فكيف يكون عبادةً، مع موافقة النفس لها. والفطر كما يَصلُحُ سببًا للأعمال الصالحة، يَصْلُحُ لضدها أيضًا. فنفسُ الفِطرِ ليس بعبادةٍ، إنما العبادةُ ما يُؤتَى به بعده. فإذن الأجرُ للأعمال الحسنة لا للفِطرِ، فافهم. هكذا وجدنا في حاشية الأصل، انتهى. قلت: وسَرَحتُ النظرَ في روايات النَسائي، فلم أجد غيرها يكون فيه إشكالٌ، وكذلك لم أجد جوابَه غير ما تَلَوْتُهُ عليك. ولم أتتبَّع له غير ذلك، لضيق الوقت، ولا أدري أهذا الذي كان مرادُ الشيخ، أم غيرُ ذلك.