للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عن جابر قال: «أَعْتَقَ رجلٌ من بني عُذْرَة عبدًا له عن دُبُرٍ» اهـ. وظاهرهُ أنه كان مُدَبَّرًا مطلقًا. فالجواب: أن بَيْعَهُ لم يكن على أن بيعَ المُدَبَّر جائزٌ في الشرع، بل لأن الرجل لم يكن له مالٌ غيره، فلما دبَّره عزَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بذلك، كما في النَّسائي: «فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم فقال: أَلَكَ مالٌ غَيْرُهُ؟ قال: لا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم من يَشْتَرِيه». اهـ.

قال السِّنْدِي في «حاشيتهِ» فيه: إن السفيهَ يُحْجَرُ، ويُرَدُّ عليه تصرُّفه. ولعلَّ البخاريَّ أيضًا ذهب إليه، فترجم: باب من رَدَّ أمر السفيه والضعيف العقل ... إلخ، ثم أخرج تحته حديث الباب. فعُلِمَ أنه جعله من باب الحَجْر، وإلغاء تصرُّف التدبير. لكن تراجمَه تَتَهَافَتُ على هذا التقدير، فلا يُدْرَى أنه حكم بالمجموع، أو أن هذا جائزٌ، وذلك أيضًا جائزٌ. لأن ولايةَ الشارع فوق ولاية سائر الولاة، فتصرُّفاتُه أيضًا تكون فوق تصرُّفاتهم، فيجوز له ما لا يجوز لغيره، فأمثالَ تلك التصرُّفات تختصُّ به صلى الله عليه وسلّم.

ونظيرُه ما أخرجه أبو داود في باب من قتل عبده ... إلخ، قال: «جاء رجلٌ مُسْتَصْرِخٌ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّم فقال: جاريةٌ له يا رسول الله، فقال: وَيْحَكَ مَالَكَ؟ فقال: شرٌ، أَبْصَرَ لسيده جاريةً له، فغار، فَجَبَّ مذاكيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليّ بالرَّجُلِ، فَطُلِبَ، فلم يُقْدَرْ عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأنت حرٌّ، فقال: يا رسول الله على من نُصْرَتي؟ فقال: على كُلِّ مُسْلمٍ، أو قال: على كلِّ مُؤْمِنٍ». اهـ.

فإِعتاقُ عبد الغير ليس بأدون من إبطال تدبيره، فإذا جَازَ له أن يَعْتِقَ عبدًا لغيره، جَازَ له أن يَبِيعَ مُدَبَّرًا لغيره أيضًا، ولا يكون ذلك لأحدٍ بعده، لقوة ولايته وعموم تصرُّفاته على الإِطلاق. أَلا ترى أن أحدًا لو فَعَلَهُ اليومَ بعبده، لم يَجُزْ لأحدٍ أن يَعْتِقَ عبده؟ ولكن المسألةَ فيه: أن الجروحَ قِصَاصٌ، فإِذن هو من باب التَّعْزِيرِ، وحَجْر التصرُّف. وأجاب العيني: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لم يَبِعْهُ، ولكنه استأجره، البيعُ بمعنى الإِجارة في لغة المدينة. ويَشْهَدُ له ما عند الدَّارَقُطْنيِّ (١)، عن


(١) أخرج الدارقطنيُّ: حدَّثنا أبو بكر النيْسَابُوري: حدثنا محمد بن يحيى: حدثنا يزيد بن هارون: حدثنا عبد الملك ابن أبي سليمان، عن أبي جعفر، قال: "باع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خدمةَ المُدَبَّرة". ثم أَخْرَجَ: حدَّثنا أبو بكر: حدثنا يوسف بن سعيد بن مسلم: حدثنا حجَّاج، وهُشَيْم بن جميل، قالا: حدَّثنا شَرِيك، عن جابر، عن أبي جَعْفَر، قال: "إنما باع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خدمةَ المُدَبِّر". قال أبو بكر: لم أجد في حديثٍ غير هذا. وأبو جعفر وإن كان من الثقات، فإن حديثَه مُرْسَلٌ. حدثنا أحمد بن محمد بن زياد القطَّان: أخبرنا عبد الكريم بن الهيثم: حدثنا محمد بن طَرِيف: حدثنا ابن فضل، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا بأسَ ببيع خدمة المُدَبِّر إذا احتاج". قال الدَّارَقُطني: هذا خطأٌ من ابن طَرِيف، والصواب عن عبد الملك، عن أبي جعفر مُرْسَلًا. انتهى.
قلتُ: وبيعُ الخِدْمَةِ هو الاستئجار، فَثبَتَ أن البيعَ يُطْلَقُ على الاستئجار أيضًا. وهذا الجوابُ قد ارتضى به الحافظُ الزَّيْلعي، حيث قال: الجواب الثاني: أن نَحْمِلَهُ على بيع الخدمة، لا بيع الرَّقبة، بدليل ما أخرجه الدَّارَقُطْنيُّ عن عبد الغفَّار بن القاسم، عن أبي جعفر، قال: "ذُكِرَ عنده أن عطاءَ، وطاوسًا يقولان عن جابر في الذي أعتقه مولاه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان أعتقه عن دُبْرٍ، فأمره أن يَبِيعَهُ، ويقضي ديْنَهُ، فباعه بثمانمائة درهمٍ. قال أبو جعفر: شَهِدْتُ الحديثَ من جابر، إنما أذِنَ في بيع خِدْمَتِهِ"، اهـ. =

<<  <  ج: ص:  >  >>