الخامسُ: أنه قدَّره بالتمر، أو بالطعام، والمُتلَفَاتُ إنما تُضْمَنُ بأمثالها، أو قيمتها بالنقد. السادسُ: أن اللبنَ من ذوات الأمثال، فحُكِمَ بضمانه في هذا الخبر بالقيمة. السابعُ: أنه يُؤَدِّي إلى الربا، لأنه إن باعها بصاعٍ، ثم دفع اللبنَ وصاعًا، أدَّى إلى صاعٍ وعينٍ بصاعٍ؛ الثامنُ: أنه يُؤدِّي إلى أن يجتمعَ عنده العِوَضُ والمُعَوَّضُ، لأنه إذا باعها بصاعٍ وردَّها بصاعٍ، صار عنده شاةٌ وصاعان، فاجتمع العِوَضُ والمُعَوَّضُ. قلتُ: وفي العبارة سقطٌ، ثم أجاب عن الوجوه كلِّها. قلتُ: قد كَثُرَ شَغْبُ الخصوم من كل جانب، مع أني لا أرى فيها أمرًا غريبًا، بل أرى أن أصحابَنا قد سَلَكُوا في الأبواب كلِّها ذلك المَسْلَك، ونِعْمَ المسلكُ هُوَ، أعني العملُ بالضابطة الكُلِّيةِ الواردةِ في الباب، وتركُ العملِ بجزئياتٍ وردت على خلاف تلك. والمرادُ بالترك هو التوقُّف في العمل بها، أو إبداء تأويلها بنحوٍ. وترى صنيعهم هذا مُطَّرِدًا في جملة الأبواب إن شاء الله تعالى. فقد عَمِلُوا بحديث أبي أيُّوب، وَتَركُوا العملَ بحديث ابن عمر في مسألة الاستقبال والاستدبار. وكذا في مسألة المواقيت عَمِلُوا بسنَّةٍ فاشيةٍ، وضابطةٍ كُلِّيةٍ، ولم يخصِّصُوها بوقائعَ متفرِّقة، فعَمِلُوا بعموم أحاديث النهي في الأوقات المكروهة، ما لم يَعْمَلْ به الآخرون، ولم يَرْضُوا أن يَتْرِكُوه بحالٍ. ومن هذا الباب أنهم لم يَرخِّصُوا بالركعتين والإِمام يَخطُبُ، لمَّا وجده مخالفًا لضابطة الاستماع يوم الجمعة عند الخُطبَة. ولم يُرَخصُوا بالكلام قليلًا كان أو كثيرًا، ناسيًا كان أو عامدًا، لأجل حديث ذي اليدين، فإنه لا يَزِيدُ على كونه واقعةً، مع ورود ضابطةٍ كُلِّيةٍ في الباب: "أن الصلاةَ لا يَصْلُحُ فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هي ذكرُ الله، والتسبيحُ، والتهليلُ، وقراءةُ القرآن الكريم". وكذا لم يَقُولُوا بتعدُّد الركوع في صلاة الكسوف، وكأنهم رأوا سبيله سبيل الجزئيات في عدم انكشاف الوجه، فَعمِلُوا بضابطةٍ كُلِّيةٍ في الصلاة. وهكذا فَعَلُوا في الصلاة على الغائب، وعلى القبر، وفي المسجد، فإن المُسْتَنَدَ في كلِّها جزئياتٌ لم تَنْكَشِفْ وجوهها. وهو صنيعُهم في مسألة موت المُحْرم، فإنهم رَأوا سبيله سبيل المُحِلِّين، ولم يَضَعُوا له سنةً جديدةً، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في مُحرِمٍ خاصةً: "لا تُخَمِّرُوا رَأسَهُ". أمَّا في المعاملات، فَطَرَدُوا فيها على ذلك، كما لا يَخفَى. اهـ. فقد تَرَكُوا حديثَ ليلة البعير، لحديث: "نهى عن بيعٍ وشرطٍ"، وقد قرَّرنا تلك الأحاديث في هذه الأمالي. ومن هذا الباب حديث أبي هريرة هذا، فإنه لا يَلتَئِم مع سائر أحاديث باب التضمين، فإن الضَّمَانَ لم يُعهَدْ في الشرع إلَّا بالمِثلِ، أو بالقيمة. وليس ضمان اللبن بصاعٍ من التمر في شيءٍ منهما، فصار كالجزئيات التي لم تَنْكَشِفْ وجوهها. ولَسْنَا مُتَفَرِّدِين في ذلك الصنيع، فإن مثل مالك أيضًا فَعَلَهُ، فإنه ترك العملَ بحديث الخيار، وقال: إن التفرُّقَ بالأبدان مجهولٌ لا نَعْلَمُ حدَّه، فلم يَعْمَلْ به. وهكذا حديث أبي هُرَيْرَة عند البخاري: "الظهر يُركَبُ بنفقته إذا كان مَرْهونًا" ... إلخ. قال ابن عبد البَرِّ: هذا الحديث عند جمهور الفقهاء يُعَارِضُه أصولٌ مُجمَعٌ عليها، وآثارٌ ثابتةٌ لا يُختَلَفُ في صحتها. ثم ذَهَبَ إلى نسخه، كما ذكره الحافظ في "الفتح". وكذا الشافعيُّ لم يَعْمَلْ بحديث ابن عباس في الجمع بين الصلاتين في المدينة، وبحديث الإِبراد، وبحديث السِّعَاية مع صحتها. وبابُ التأويل واسعٌ، ولا يَعْجِزُ عنه أحدٌ. فإن ترك الحنفية حديثَ أبي هريرة هذا لزعمهم أنه يُخَالِفُ سائر باب التضمين، فماذا أَذْنَبُوا؟ ثم لِيُعْلَمَ أنه فَرقٌ بين ترك العمل بحديثٍ، والتوقُّف عنه، وبين ردْ الحديث. وحاشا للحنفية أن يقولوا برَدِّ حديثٍ ثَبَتَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كيف! وحقُّ الرسول أَقدَمُ، ولكنهم إذا توقَّفُوا عن العمل =