والجواب عندي: أن الحديثَ محمولٌ على الدِّيَانة دون القضاء، لِمَا في «فتح القدير»، في باب الإِقالة: أن الغَرَرَ، إمَّا قوليٌّ، أو فعليٌّ، فإن كان الغَرَرُ قوليًّا، فالإِقالةُ واجبةٌ بحكم القاضي. وإن كان الثاني تَجِبُ عليه الإِقالةُ دِيَانةً، ولا يَدْخُلُ في القضاء. كيف وأن الخِدَعَاتِ أشياءٌ مستورةٌ، ليس إلى علمها سبيلٌ، فلا يُمْكِنُ أن تَدْخُلَ تحت القضاء. فالتَّصْرِيةُ أيضًا خَدِيعةٌ، ويَجِبُ فيها على البائع أن يُقِيلَ المشتري ديانةً، وإن لم يَجِبْ قضاءً.
وحينئذٍ فالحديثُ مُتَأَت على مسائلنا أيضًا، ولم أَرَ أحدًا منهم كَتَبَ أنه مُوَافِقٌ لنا. وادَّعَيْتُ من عند نفسي: أن الحديث لا يُخَالِفَ مسائلنا أصلا، لأن التَّصْرِيَة غَرَرٌ فِعْليٌّ، وفيه الرَّدُّ ديانةً على نصِّ «فتح القدير». وهكذا أقول فيما إذا اشترى سلعةً، فلم يُؤَدِّ ثمنها حتى أَفْلَسَ: إنه يكون فيه أسوة للغُرَمَاءِ عندنا قضاءً، ويَجِبُ عليه أن يَرُدَّ المبيعَ إلى البائع خِفْيَةً ديانةً، فإنه أحقُّ به، لكنه حكم الدِّيَانة دون القضاء. وأوَّله الطحاويُّ في هذا الحديث أيضًا، وحَمَلَهُ على العَوَارِي.
ونظيرُه ما في الفِقْهِ: أن فرسًا لأحدٍ لو هَرَبَ إلى دار الحرب، ثم حيِزَ في الغنيمة، فإن أخذه مالكه قبل التقسيم يأخذه مجَّانًا، وإلا فيأخذه بالقيمة. فَدَلَّ على بقاء حقِّه بعد التقسيم أيضًا في الجملة، وإن لم يَبْقَ مِلْكُه، فانكشف أن حقَّ المِلْكِ قد يبقى بعد زوال المِلْكِ أيضًا. وهكذا فيما إذا أَفْلَسَ المشتري، ينقطع مِلْكُ البائع عن المبيع، ويبقى حقُّ المِلْكِ، ولذا يَجِبُ عليه دِيَانةً أن يَرُدَّه عليه خِفْيَةً. أمَّا في القضاء، فهو أسوةٌ للغُرَمَاء، لانقطاع المِلْكِ.
ثم اعلم أن الزيادةَ في المبيع إمَّا متَّصِلَةٌ، كصَبْغِ الثوب، أو مُنْفَصِلَةٌ. والمُنْفَصِلَةُ إمَّا مُتَوَلِّدَةٌ، أو غير مُتَوَلِّدَةٍ، وكلٌّ منها قبل القَبْضِ أو بعده. ومِصْدَاقُ الحديث:«الخراج بالضمان» الزيادةُ الغيرُ المُتَوَلِّدة. وهي فيما نحن فيه: مُتَوَلِّدَةٌ مُنْفَصِلَةٌ، ولا رَدَّ فيها عندنا في عامة كُتُبِنَا. وفي «الوجيز»، و «التهذيب»، و «الحاوي»: إنه يَرُدُّه عند التراضي. قلتُ: فما في عامة الكُتُبِ حكم القضاء، وفي تلك حكم الدِّيَانَةِ، وقد نَظَمْتُهُ في بيتين:
*بِزِيَادَةِ المُنْفَصِل المُتَوَلِّد ... أو عَكْسِهِ، مُتَعَيِّبٌ لم يَرْدُد،
*ثم في «التهذيب»، و «الوجيز» و «الحـ ... ـاوي» الجواز بالتراضي يُحْمَل
وراجع التفصيلَ من «البحر». ومن ههنا أقول: إني لا أرضى بجواب الطحاويِّ، لأنه عارضٌ بحديثٍ عامَ، يمكن أن يُخَرَّج له وجوهٌ، ومحاملٌ. وحديثُ المُصَرَّاة حديثٌ خاصٌّ، فلا يُعَارِضُهُ. وإنما الطريق أن يُؤْتَى بمعارضٍ من هذا الباب الخاصِّ.
= الخراج بالضمان، أو حديث النهي عن بيع الكائي بالكائي. وقال عيسى بن أَبَان: إنه منسوخٌ بنسخ العقوبات في الأموال، وكانت العقوبات في الذنوب يُؤَاخَذُ بها الأموال في زمن، فإن البائعَ إذا حَفَّل المبيع، فقد غرَّ المشتري، فكانت عقوبةٌ: أن يَجعَلَ اللبنَ المحلوبَ في الأيام الثلاثة للمشتري بصاع من تمرٍ، أنه يمكن أن يساوي أَصْوُعًا منه في القيمة. فإذا نُسِخَ التعزيرُ بالغرامات المالية، نُسِخَ حديث الباب أيضًا. ثم قال الطحاوي: إنه الأولى في وجه النسخ، أن يُقَال: إنه منسوخٌ بحديث النهي عن بيع الكائي بالكائي. يقول العبدُ الضعيفُ: وكان كلام الطحاويِّ دقيقًا من هذا الموضع، فشرحته على ما فَهِمتُه من نفسي، تيسرًا للطلبة. والله تعالى أعلى بحقيقة الحال.