لكون المعقودُ عليه فيها تسليمَ النفس دون الزنا خاصةً. فإن زَنَتْ من غير أن يُؤْجِرَهَا المولى لا تَطِيبُ له الأجْرَةُ، لأنها لا تَمْلِكُ منافعَ بُضْعِهَا، فلا تَمْلِكُ إجارتها أيضًا. نعم يَجِبُ له العُقْرُ، ويَسْقُطُ الحدُّ. فإن وجوبَ المهر، أو العُقْرِ يَمْنَعُ وجوب الحدِّ عندنا.
وقد ذَكَرَ الحنفيةُ: أن الأجيرَ على قسمين: أجيرٌ مطلقٌ، وذلك يَسْتَحِقُّ الأُجْرَةَ بتسليم النفس، ولو لم يَعْمَلْ شيئًا. والثاني: أجيرٌ مُشْتَرَكٌ، ويكون المعقودُ عليه فيها عملا خاصًا، فلا يَسْتَحِقُّ الأُجْرَةَ إلا بعد عمله، كالقَصَّار، والخيَّاط، والصبَّاغ. فإن جَعَلَ تسليمَ النفس، والعملَ كليهما معقودًا عليه، فَسَدَتِ الإِجارة، كما في «ما لا بد منه» - رسالة بالفارسية - للشيخ العارف بالله ثناء الله الفاني فتى، من أَجِلَّة علماء الهند. وهناك قسمٌ ثالثٌ أيضًا، وفيه بحثٌ، وراجع له «الدرر والغرر».
وبالجملة كانت المسألةُ مختصةً بالمولى وجاريته، فأَجْرَاها الشاميُّ بين الحرائر أيضًا، مع أنه لا تعلُّق لها بالحرائر. ثم ذاك أيضًا بحسب زمانهم، فإنهم كانوا في زمانٍ لم تَكُنْ الإِجارة على الزنا شَاعَتْ فيه. وإنما كان الفُسَّاقُ يَحْتَالُون له، فيستأجرون الجواري على طريق الأجير المطلق، ثم كانوا يَزْنُونَ بهنَّ أيضًا، فساغ للفقهاء أن يَحْمِلُوها على تسليم النفس، تصحيحًا للعقد مهما أمكن، وحملا لحال المسلم على الأَصْلَح. وإن كان عَقَدَ على الزنا وسمَّاه، فإنه من مسخ فطرته، وسوء بِطَانَتِهِ، فلا يُلْتَفَتُ إليه، ولا يُصْغَى لقوله، كما مرَّ عن ابن تيمية: أن الإِجارةَ على حمل الخمر تَنْصِرفُ إلى مطلق الحمل.
أمَّا إذا شاعت الإِجارةُ، والاستئجارُ في الزنا، كما في زماننا، تعذَّرَ التأويلُ المذكورُ، وتعيَّن كون الزنا هو المعقودُ عليه، فَتَحْرُمُ الأجرة مطلقًا. أمَّا في الحرائر فظاهرٌ، وأمَّا في جاريته فلانقلاب الحال.
ومن ههنا ظَهَر سرُّ الفرق بين أجرة النائحة والمغنية، حيث جَزَمَ فقهاؤنا بحُرْمَةِ أجرة المغنية والنائحة، كما في «الكنز» مع جريان هذا التأويل فيهما أيضًا. وذلك لأنهم لمَّا نَظَرُوا في زمانهم، وجدوا الإِجارةَ قد فَشَتْ في باب الغناء والنَّوْح، فجعلوهما معقودًا عليه، ولم يَحْمِلُوها على تسليم النفس. بخلاف الزنا، فإنهم لم يَجِدُوا الإِجارةَ فيه شائعة، كما في زماننا. فإن الناسَ لقلَّة الدين والدِّيَانة، وضعف الإِيمان والأمانة، يستأجرون ولا يُبَالُون، يَزْنُونَ ولا يَسْتَحْيُون، فكيف يكون اليوم لهم التأويلُ. وإلا فلا أعرف فرقًا بين النوعين، حيث حَرُمَتْ الأجرة في الغناء، وطابت في الزنا، مع كون الزنا أشنعَ وأفحشَ، ويَلْحَقُ به ما عند البخاريِّ في كتاب الإِكراه، باب إذا اسْتُكْرِهَتْ المرأة على الزنا، فلا حدَّ عليها، وعن الزهريِّ:«أنه لو زنى أحدٌ من أَمَةٍ بِكْرٍ يَجِبُ عليه الحدُّ، وضَمِنَ النقصان».
وفي «الهامش»، وهو قول مالك، وإسحاق، وأبي ثَوْر: فكما أن إيجابَ الضمان في الصورة المذكورة لا يُعَدُّ أجرةً لزناه، بل يُعَدُّ ضمانًا للنقصان، كذلك الأجرة فيما نحن فيه، لا تكون أجرةً للزنا، بل أجرةً للحبس، وتسليم النفس. ثم إن عبارة «المحيط» تقتضي أن تلك المسألة لعلَّها حَدَثَتْ من لفظ المهر، فإنه يقتضي تَمَادِي تلك المعاملة، وطول فيها، وذاك إذا