للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

باب الوُثُوق بوعد رجلٍ صَدُوقٍ، لا من باب الكَفَالَةِ، أو الحَوَالَةِ. فهو بابٌ آخر، وإدخالُه في باب الحَوَالَةِ ليس بذاك. وإرجاعُ الأبواب كلِّها إلى أبواب الفِقْهِ ليس بشيءٍ. فإنا نَجِدُ أبوابًا، كالمروءة، وغيرها، لا نجد لها أثرًا في الفقه. كيف وأنها لا تَلِيقُ بموضوع الفقهاء، فهذه تكون جائزةٌ في نفسها، فإذا جَرَتْ إلى الفقه عادت إلى عدم الجواز، فليتنبَّهْ في تلك المواضع.

...


= وما روى عبد الله بن أبي قتادة، عن أبي قتادة أنه قال: توُفِّي رجلٌ منا، فذهبوا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِيُصَلِّيَ عليه فقال: هل ترك من شيء؟ قالوا: لا، والله ما ترك شيئًا. قال: فهل عليه دينًا؟ قالوا: نعم ثمانية عشر دِرْهمًا، قال: فهل ترك لها وفاءً؟ قالوا: لا، والله ما ترك لها قضاء من شيءٍ. قال: فصلُّوا على صاحبكم. فقال أبو قتادة: يا رسول الله، أرأيت إن أنا قَضَيتُ عنه أتُصَلِّي عليه؟ قال: نعم إن قضيت عنه صليت عليه، فذهب أبو قتادة فقضى عنه، ثم جاء فقال: قد وفيت ما عليه؟ فقال: نعم، فدعا به، فصلَّى عليه"، هو حديثٌ فاسدُ الإِسناد، لا تقوم بمثله حُجَّةٌ، لأنه قد رُوِيَ: أن عبدَ الله أَنْكَرَ سماعه من أبيه، وقال: إما حدَّثني به من أهلي من لا أَتَّهِمُ.
وفيه إلزامُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكفيل الكفالة بغير أمر المكفول عنه. وفيه إلزامه بغير قَبُول المكفول له، كما قاله أبو يوسف، ومحمد خلافًا لأبي حنيفة. وفيه إلزامُه الكفالة بالدين الذي علي الميِّت المُفْلِس، كما قالا، خلافًا للإِمام، لأن بالموت خَرِبَت الذمة، فسقط الدين. ولكن الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - هو المُتَّبَعُ والمُقْتَدي. رُوي عن جابر بن عبد الله: أن رجلًا مات، وعليه دينٌ، فلم يُصَلِّ عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتى قال أبو اليَسَر، أو غيره: هو إليَّ، فصلَّى عليه. فجاءه من الغد يَتَقَاضَاهُ، فقال: "إنما كان ذلك أمس. ثم أتاه من بعد الغد، فأعطاه. فقال: الآن بَرُدَت عليه جِلدته". ففيه إلزامُ الكفيل عن الميِّت المُفْلِس. وفيه أن الذي عليه لم يَبرَأْ بوجوبه على الكفيل إلَّا بعد القضاء. وفيه دليلٌ على صحة ما كان أبو حنيفة، وأصحابه.
والشافعيون يَذهَبُون إليه في المال المكفول به: أن للغريم مُطَالبة الكفيل والمَكْفُول عنه، أيهما شاء، خلافًا لِمَا قاله مالك، بأنه لا يُطَالِبُ الكفيل إلَّا عند عجزه عن مطالبة الأصيل. لأن الميِّتَ المكفولَ عنه ما ترك وفاءً، فلذلك لَزِمَ الكفيلُ. ولأن المَكْفُولَ عنه إذا كان حاضرًا قادرًا، فإن أخذ من الكفيل يُؤخَذُ في حينه من الأصيل، فأخذه من الأصيل أقلُّ عنك، فهو أَوْلَى.
قال الطحاويُّ في قوله: "الآن بَرُدَت عليه جلدته" دليلٌ على صحة ما ذهب إليه أبو حنيفة، وأصحابه. فمن قَضَى دينًا عن رجلٍ بغير أمره، ليس له أن يَرْجِعَ عليه، لأنه لو بَقِيَ على الميت لَمَا بَرُدَت جلدته. ولكن قول مالك في الحيِّ، وفي الميِّت الذي له وفاءٌ، والحديثُ في الميت المُفْلِسِ. ثم كيف يُحْتَجُّ لأبي حنيفة بالحديث، وهو لا يقول بجواز الكَفَالَةِ عن الميِّتِ المُفلِسِ، اللهم إلَّا أن يُقَالَ: إن عنده يَجُوزُ، ولكن لا يَلْزَمُ وهو الأَصَحُّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>