للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وعند مسلم (١) «نورٌ أَنَّى أراه»؟ يؤيده فإنه لا ينفي الرؤية مطلقًا، ولكنه ينفي اكتناهه والإحاطة به والتحديق إليه ورؤيته متمكنًا؛ فإن كمال النور يمنع الإدراك، وحينئذٍ لو كانت بدون الحجاب لأمكن أيضًا. فالنبي صلى الله عليه وسلّم حصل له الرؤية ألبتة، ولكنها كانت رؤية دون رؤية، وهي التي تليق بشأنه تعالى؛ فإنه لا يمكن لأحد أن يتقرر بصره على وجهه تعالى، وهو العلي العظيم، فإن مهابة كبريائه مانعةٌ عن النظر إليه متمكنًا، ولكنه رؤية دون رؤية، كما يتيسر لنا لأحد من الكبراء في الدنيا بطريق مسارقة النظر.

ولذا ترى الألفاظ فيها واردة بالإيجاب مرة والنفي أخرى. ولا تريد أن تؤدي تلك الرؤية في العبارة إلا جاء التعبير هكذا موجبًا مرة ونافيًا أخرى. ونظيره قوله تعالى: {وما رميتَ إذا رميتَ ولكنَّ الله رمى} [الأنفال: ١٧] فجاء فيه النفي والإثبات معًا، فهكذا أمر الرؤية. والحق أن المعاملات الربانية كلها لا توفيها الألفاظ كما هي، فيحدث هذا العُسر لضيق نطاق البيان. فاختلاف الإثبات والنفي ليس تنافيًا وتضادًا، بل كل منهما أحد طرفي المراد. وإذا هو رؤية المتأدب، ورؤية بين رؤيتين، ورؤية دون رؤية. فلو شئت أن تثبتها أثبتها، ولو شئت أن تنفيها نفيتها، لا بمعنى أنها لم تحصل، بل بمعنى أنها رؤية تتحمل الإثبات والنفي معًا.

وحينئذٍ لو كان لفظ مسلم: «نُورٌ أَنَّى أرَاه» لصح أيضًا، فإنه رأى ربه ألبتة وكان نورانيًا. وقد وقع إطلاق النور عليه في القرآن أيضًا: {الله نور السموات والأرض} [النور: ٣٥]. ولكن هذا أيضًا رؤية دون رؤية، فإن شئتَ أثبتها وقلت: كان نورانيًا حين رآه. وإن شئتَ نفيتَ عنه وقلت: «نور أنَّى أراه» فإنها ليست رؤية بتمامها وكمالها. وفي لفظ: «رأيت نورًا» وهذا أيضًا يحتمل المعنيين: أي رأيت نورًا فحسب دون الذات، ومنعني النور عن رؤيتها. أو رأيت ذاتًا منورًا. وقد فهم الناس التقابل بين هذين الاحتمالين، وهما عندي واحد، فإن الرؤية التي حصلت


(١) قال بعض المحققين في شرحه على منظومة في العقائد: أن الإدراك في قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} في أحد تفسيري ابن عباس رضي الله عنه: هو الرؤية على نحو الإحاطة بجوانب المرئي، إذ حقيقته النيل والوصول ومن المعلوم أن الرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة أخص مطلقا من الرؤية المطلقة، فلا يلزم من نفيها نفي المطلقة وثاني تفسيري ابن عباس رضي الله عنه: أن لا تدركه الأبصار إذا تجلى بنوره الذي هو نوره فإنه إذا تجلى بنوره الذي هو نوره لا يقوم له بصر، لأن هذا التجلي مغنٍ للمتجلَّى له، كما يشير إليه حديث أبي موسى حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، بخلاف التجلي الشمسي والقمري أي التجلي في النور الوارد في حديث: "هل تضارون في الشمس" ... إلخ "هل تضارون في القمر" اهـ. فإنه لا يغني المتجلى له، فيتمكن من الرؤية وعلى الأول يحمل حديث أبي ذر رضي الله عنه: "نور أنى أراه" وكذلك حديث عائشة رضي الله عنها في نفيها الرؤية، يحمل على نفي الرؤية لهذا النور، لا مطلقًا. ويحمل حديث أبي ذر رضي الله عنه أيضًا عند مسلم: "رأيت نورًا" على التجلي في نور يقوم له البصر أي التجلي الشمسي أو القمري ... إلخ ص ٣٠٦. قلت: وإن كان الجمع بين الحديثين يحصل منه أيضًا، لكن ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى في وجه الجمع الطف منه؛ فإن الرؤية عنده رؤية يتأتى فيها الإثبات والنفي معًا، لكون رؤيته دون رؤيته.

<<  <  ج: ص:  >  >>