واعلم أن المزارعةَ على ثلاثة أنحاءٍ: كِرَاءُ الأرض بالنقد، وهذا جائزٌ بالاتفاق. والثاني: المزارعةُ على ما خَرَجَ من الأرض، فإن عيَّن لنفسه حصةً معيَّنةً من الأرض لم يَجُزْ بالاتفاق. وكذا إذا اشْتَرَطَ حصةً معيَّنةً من الخارج، كخمسة أَوْسُق أو نحوها، لِمَا فيه من المخاطرة، فجاز أن لا تُنْبِتَ هذه، وتُنْبِت تلك.
أما إذا زَارَعَهُ على المُشَاع، وهو الثالث، كالنصف، والثُّلُث، فهذا هو مورد الخلاف. نَهَى عنها أبو حنيفة، وأَجَازَهَا صاحباه، ولم أَكُنْ أفهم دهرًا ما في «الهداية»، في أول باب المزارعة: لا تَجُوزُ المزارعةُ والمساقاةُ، عند أبي حنيفة، ثم أراه يَنْقُلُ الخلاف في المسائل بينه وبين صاحبيه أيضًا. وكنت أتعجَّبُ أن المزارعةَ إذا لم تَجُزْ عنده، فمن أين تلك التفريعات والمسائل. ولم يَكُن يَعْلَقُ بقلبي ما أجابوا عنه من أن الإِمامَ كان يَعْلَمُ أن الناسَ ليسوا بعاملين على مسألتي، ففرَّع المسائلَ على أنهم إن زارعوها، فماذا تكون أحكامها؟
ثم رأيتُ في - «حاوي القدسي»: كَرِهَهَا أبو حنيفة، ولم يَنْهَ عنها أشدَّ النهي. وحينئذٍ نَشُطْتُ من العِقَال، وَثِلَجَ الصدر، وظَهَرَ وجهُ التفريعات مع القول بالبطلان. فإنه قد نبَّهناك فيما مرَّ أن الشيءَ قد يكون باطلا، ولا يكون معصيةً، فلا بُدَّ أن يكونَ له أحكامٌ على تقدير فرض وقوعه، فإنه وإن كان باطلا في نفسه، لكنه لا يَلْزَمُ من فرض وقوعه مَحَالٌ في الشرع. فلو فرضناه واقعًا، يكون له حكمٌ لا مَحَالة. فلذا تعرَّض إليه.
ثم إنه وَرَدَ النهيُ عن المُزَارَعَةِ بالنقد أيضًا، كما في كتاب البخاري، وهو محمولٌ على الشفقة بالاتفاق، ومعناه: أن الأرضَ مما لا ينبغي أن يُؤْخَذَ عليها الأجر، فمن كان عنده فَضْلُ أرضٍ فارغةٍ عن حاجته، فَلْيَمْنَحْ بها أخاه. وهو أيضًا حكمٌ على طريق المروءة، وبسط الخُلُق.