للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

المقولةَ الواحدةَ تختلِفٌ إيمانًا وكُفَرًا، بحَسَب اختلافِ النِّيات. ولا رَيْب أنها لو كانت على طريقِ الاعتراض فهو كُفْر. وعلى وِزَانه ما قلت، في مقولة فِرْعون: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: ٩٠]، فإِنَّها لو كانت على طريق التحقيق كانت إيمانًا إن صَدَرت في وقتها، أما إذا كانت على طَوْر التخليط، كما يقول المنافق في القبر: «لا أدري، سمعتُ الناسَ يقولون قولا فقلته». فليس من الإِيمان في شيء، وهذا يفيدك في جواب مَن ادَّعى إيمانَ فِرْعونَ.

قوله: (حتى يَرْجِعَ إِلى الجَدْر) ترجمته دول، وقدَّرها الفقهاء بالكعبين، ثم إنَّهم (١) لا يذكرونَ تفصيلَ الأعلى، أو الأسفل في كُتُبنا. فتتبعته حتى وجدتُ مسألةً عن محمد في «غاية البيان» - للإِتقاني، وهو أقدمُ من ابن الهُمام - يمكنُ حَمْل الحديثِ عليها، نقل عن محمد أن


= فما زال يُكرِّرها حتى تمنيتُ أَني لم أكن أَسلَمت قبل ذلك اليوم. ففيه تمني الكُفر فيما مضى. وقد ذكرنا وجه التفصي عنه في صُلْب الصَّحيفة، ومنها ما سبق عن الأنصار من قولهم: يَغفِر الله لرسولِ الله يُعطِي قريشًا. ويتركنا، وسيوفنا تقطر مِن دمائهم- كما يأتي في "المغازي"، كل ذلك نحو تعبير، أو إساءة أَدب لحضرةِ الرسالة، لكونهم فِتيانًا لم يتعلموا كثيرًا من معالي الأخلاق بعد، مع حُسْن نية، وكمال اعتقاد في الباطن. وقد صرَّح به الأنصارُ حين جمعهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قبة، ثم سألهم عن مقولتهم، فقالوا معتذرين: إن هذا القولَ لم يسبق إلَّا من الفتيان. وذلك أيضًا ضنًا برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن هذا الباب ما رَوى البخاريُّ عن سُليمان بن صُرَد في قِصة استِباب رَجُلين بين يدي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعلمُ كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجِدُ، فقال الرجلُ: وهل بي جنون؟ " وسيجيء تقريرُه في أواخر "باب بدء الخلق". ومن نظائره ما وقع من أمهاتِ المؤمنين رضي الله تعالى عَنْهن في قصةِ الإِيلاء. إن نساءك يناشدنك العَدْل. ومن هذا الباب قولهم في فضائل علي: لقد طال نَجْواه مع ابنِ عمِّه.
ومنه ما روى البخاري ومُسْلم عن عائشةَ قالت: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأعلم إذا كُنتِ عني راضيةً، وإذا كُنتِ علي غَضبى، فقلتِ: من أين تَعرِفُ ذلك؟ فقال: إذا كُنت عني راضيةً، فإنك تقولين: لا وربِّ محمدٍ، وإذا كُنتِ علي غَضبى، قلتِ: لا وربِّ إبراهيم، قالت: قلت: أجَل، والله يا رسولَ الله ما أَهْجُرُ إلَّا اسمَك" اهـ. قال الشيخ: والمغاضبةُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - باب لا يحتمل إلَّا بينه وبين أمهاتِ المؤمنين، فانظر ما معنى قوله: "كُنتِ علي غضبى" وكذا ما يفيد قولها: ما أهجر إلا اسمك، وكذا قولها في قصة الإفْك: والله لا أحمدُه ولا أحمدكما. وهذا هو المحْمَل عند الشيخ في جميع ذلك. غير أنِّي جمعتُها في موضع واحدٍ مع زيادة النظائر، ثم خطر ببالي أنا ما سبق من عائشة بابٌ آخَرُ أيضًا، ومَن لم يتجرع مرارةَ المحبةِ لا يفهم هذا المعنى. وكنت أَرى ذلك رأيًا رأيتُه، ثُم رأيت عن ابن الجوْزي عينَ ما ذكرت. فلله الحمد، قال الحافظ: قال ابنُ الجوْزي: إنما قالت ذلك إدْلالًا، كما يدل الحبيبُ على الحبيب. اهـ. ومنه ما رُوي عن أبي هريرةَ يومَ الفتح من قول الأَنصار: "أمَّا الرجلُ فقد أَخَذَتْهُ رأفةٌ بعشيرته، ورَغبةٌ في قريته". فلما سألهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن مقالتهم أجابوا بِعَين ما ذكره ابنُ الجوزي في حديث عائشة، فقالوا: ما قلنا إلا ضنًّا بالله ولرسوله. قال: "فإنَّ الله ورسولَهُ يُصدِّقانِكُم وَيْعذُرانِكم". اهـ -رواه مسلم-. ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: ١١٠] بالتخفيف، وسيجيء تقريرُه في "التفسير" إن شاء الله تعالى. فإنَّ النَّاسَ قد صَعُبتْ عليهم تلك القراءةُ، وكان الشيخُ يَستلذُّ بها، وكان يقولُ: لا أدري ماذا فيها من أبواب البلاغة والبراعة. يقول العبد الضعيف؛ ومَنْ لا ذوقَ له يسأم من جمع هذه النظائر، ويراها لغوًا، وإنَّما أكثرت في النظائر ليذوقَ من لا ذَوْقَ له أيضًا، والله المستعان.
(١) قال العيني: ليس مراد أبي حنيفة من قوله: إن الأعلى لا يُقدم على الأسفل". أنه يختص بالماء، ويحرم الأسفل، بل كُلَّهم سواءٌ في الاستحقاق، غيرَ أنَّ الأول يسقي. ثُم الثاني، ئُمَّ الثالث. وهلم جرا، والانتفاع في حقِّ كلِّ واحِدٍ بقَدرْ أرضه، وقدْر حاجته، فيكون بالحصص. "عمدة القاري".

<<  <  ج: ص:  >  >>