قلت: وهذا الاعتراضُ ساقِطٌ، لأن هذا من باب المسامحات، والإِغماض، دون المماكسة، والتنازع. وليس في الفِقْه إلا بابُ التنازع، والسرُّ فيه أن باب المسامحات، لا يأتي فيه التكلِيفُ، ولا يُجبر عليه أحدٌ، إنما هو معاملةُ الرجل مع الرجل على رضاء نفسه، فلم يذكروا في الفِقْه إلا أحكامَ القضاءِ، وهي التي مما يُجْبرُ عليها الناسُ، وقليلا ما ذكروا أبواب الديانات. والنَّاسُ إذا لم يَرَوا مسألةً في الفِقْه يزعمونَها منفيةً عندهم، مع أنَّ الفقهاءَ إنَّما تكلموا فيما في دائرةِ التكليف. والتي ليست كذلك لم يتعرضوا لها، وإن كانت جائزةً فيما بينهم.
فما ذكره البخاريُّ ليس من باب البيوع، بعد الإِمعان، بل مِن باب التعاطي، فإِذا أغمض الناسُ في التجازف في التمرِ والأموالِ الرِّبويَّة في التعاطي، جاز عند البُخاري، فإِنْ أَخذ رجلٌ عشرةَ أَوْسُق من التمر دينًا عليه، فإِذا حلَّ الأجلُ أدَّاها مجازفةً، على طريقِ التسامح، ولم ينازِعْهُ الدائنُ، وقَبِله، وأغمض عنه يكونُ جائزًا عنده. كيف لا وقد يَفْعَلُه الناسُ فيما بينهم إلى اليوم. ولا ينبغي قَطْع النَّظَر عَمَّا يتعارفُ النَّاسُ فيما بينهم من العمل. فينبغي أن يكون جائزًا، ولا دَخْل فيه لخلاف الإِجماع، نعم يُحْمِل على الدياناتِ دون القضاء، ألا ترى أنَّ الرُّفقاء في السَّفرِ يأكلون طعامهم على مائدةٍ واحدةٍ، وسُفرةٍ واحدةٍ، ولا يأتي فيه قائل يقول، مع أنه ينبغي أن لا يكون جائزًا فِقْهًا، فإِنَّه شرِكةً أولا، ثم تقسيمٌ بالمجازَفَةِ آخِرًا، مع كونِها من الأموالِ الربوية. وكذا جرى العُرْف في استقراض الخُبْز، ولم يَحْكُم فيه أحدٌ بالحُرْمَةِ، فهذه أبوابٌ لا ينبغي أن يُقْطَع عنها النَّظَرُ، ونَظيرُها ما ترجَم به البخاريُّ في أوَّل باب الشركة. باب الشَّرِكة في الطعام، والنَّهدِ، والعُروض، وكيفية قسمة ما يكال ويوزنُ مُجازفةً (١) - الخ.
٢٣٩٦ - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّىَ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ وَسْقًا لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَاسْتَنْظَرَهُ جَابِرٌ، فَأَبَى أَنْ يُنْظِرَهُ، فَكَلَّمَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيَشْفَعَ لَهُ إِلَيْهِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَلَّمَ الْيَهُودِىَّ لِيَأْخُذَ ثَمَرَ نَخْلِهِ بِالَّذِى لَهُ فَأَبَى، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّخْلَ، فَمَشَى فِيهَا ثُمَّ قَالَ لِجَابِرٍ «جُدَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ الَّذِى لَهُ». فَجَدَّهُ بَعْدَ مَا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَوْفَاهُ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَفَضَلَتْ لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَجَاءَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيُخْبِرَهُ بِالَّذِى كَانَ، فَوَجَدَهُ يُصَلِّى الْعَصْرَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُ بِالْفَضْلِ، فَقَالَ «أَخْبِرْ ذَلِكَ ابْنَ الْخَطَّابِ». فَذَهَبَ جَابِرٌ إِلَى عُمَرَ، فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَقَدْ عَلِمْتُ حِينَ مَشَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيُبَارَكَنَّ فِيهَا. أطرافه ٢١٢٧، ٢٣٩٥، ٢٤٠٥، ٢٦٠١، ٢٧٠٩، ٢٧٨١، ٣٥٨٠، ٤٠٥٣، ٦٢٥٠ تحفة ٣١٢٦
(١) يقول العبد الضعيف: ولما كانت الحرْمةُ في الأموالِ الربويةِ من حقوق الله تعالى، ينبغي أن يستوي فيها حال التنازعُ والمسامحةِ، ألا ترى أن رَجلين لو تبايعا الذَّهب بالذهبِ متفاضِلًا، وتراضيا على ذلك لم يَجُز، فإِنَّ حُرْمةَ الفَضْل فيه حقًا لله، فرضاؤه وسخطه فيه سواءٌ. فينبغي أن تكون صورةُ استقراضِ الحيوان بالحيوان، وكذا استقراض التمر، ثم أداؤه مجازفةً، كلها حرامًا، سواء وقع فيه التنازعُ، أم لا، وكان الشيخ قد أجاب عنه فيما أتذكر، ولا يحضُرُني الآن.