للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

والمعنى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم نهى عن بَيْعِ الرُّطب بالتمر نظرًا إلى ثاني الحال، لإفضائه إلى المنازعة، فبقاءُ بَيْعِها في الحالة الراهنة جائزةٌ، خارجةٌ عن قضيةِ الحديث. ومِن ههنا تبيَّن وجه سؤال النبي صلى الله عليه وسلّم أَيَنْقُضُ الرَّطَبُ ... الخ أيضًا. لأنَّ بُيوعَهم، في الرُّطب إذا كانت بهذه الرعايةِ ناسَب سؤاله قطعًا. فإنَّه إذا اتضح الرُّطب التفاضُل بين الرُّطَب. والتَّمر في ثاني الحال، تَبيَّن أن رعايتَه تُقْضي إلى المنازعة لا محالة: «فلا تَبِيعوه نسيئةً»، أي بهذه الرعايةِ، بل بيعوه باعتبار الحالةِ الراهنةِ، وهو معنى قوله: «فلا إذن»، أي إذا عَلِمتم النُقْصان في ثاني الحال، فَبيْعُكم بهذه الرعاية ليس بجائز. وجملةُ الكلام أن البيعَ المذكور جائزٌ عندنا باعتبار الحالة الراهنة، وغيرُ جائزٌ برعايةٍ إنْ تساوي التَّمر بعد اليَبْس، وهذا إذا حَمْلت النسيئةَ على المعنى المذكور. أما إذا حَمَلْته على معناه المعروف فلك أن تقول: إنَّ السؤالَ لِتعليم أَمْرٍ مُفِيدٍ فقط، وإن كان محطُّ الفائدةِ هو قَيْدَ النَّسيئة فقط. وقد قَرَّره المَرْجاني في «حاشية التلويح»، ولعله من باب التعارُض (١).

...


(١) يقول العبدُ الضعيف: ولقد راجعت الشَّيخَ في شَرْح هذا اللفظ مرارًا، أفادني كلَّ مرة بما يَليقُ بشأني، إلا أنِّي لم أزل فيه متردِّدًا من سُوء فَهْمي. فقال مرةً: كما عَلِمت الآن، وهو آخِرُ ما سمعت فيه، وهو المرَجح عنده، وقرَّر أُخرى، بأنَّ الحنفية اعتبروا المساواة حالًا، فجوَّزوا بَيْعَ الرُّطب بالتمر متساويًا، وآخرون اعتبروها مآلًا، ومعلوم أن الرُّطب بعد اليَبْس تَنْقُص لا محالةَ، فلا تتحقَّقُ فيها المساواةُ حقيقةً، فَنُهوا عنه. وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَيَنْقُص الرُّطَبُ" ... الخ ألصق بِمَرامهم، وإنَّما سألهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن نقصانها بَعْد اليَبْس، لأنَّ الكيل في الرُّطَبُ لم يكن معروفًا فيما بينهم، بل الرُّطب كانت تُباع معدودةً، وإنَّما لم يُعْرف فيه الكَيْل لِعُسره في الرُّطب، لأنها تَنْعَصِر بالكَيْل، ويَخْرج ما فيها من الشَّيْرج، ولذا وَرَد الخَرْص في الرُّطب عند الترمذي بخلاف التَّمر. فإِذا لم يُعرف فيه الكَيْلُ، فلا يكونُ بيعه بالتمر، إلا خرصًا، فيحدثُ احتمالُ التفاضل لا محالة. فكأنَّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَرْشدهم بسؤاله إلى مَناط النهي. لا يقالُ: إنَّ الشيخ أقرَّ ههنا بكَوْن الكَيْلِ غير معروف في الرُّطب، وقرَّر فيما مرَّ كَونَه معروفًا، لأنَّا نقولُ: وذلك اعتباراتٌ، فجعله معروفًا باعتبار، وغير معروفٍ باعتبار، يعني إن جعلناه معروفًا، فلنا أن نقولَ كذا، وإنْ جعلناه غيرَ معروفٍ، فحمله ذلك، وهل يأتي من الإنسان فيما لم يشاهده حتمٌ، فإِذا لم يتحقَّق ما كان فيه الحالُ عنده حمله على الوجهين، فإن كان الكَيْلُ معروفًا فكذا، وإنْ كان غير معروف فكذا. وقد أراد فيما مَرَّ إثباتَ جواز العَريَّةِ على مذهب الحنفية بِشَرْح الشافعية أيضًا، فادَّعى الكَيْل في الرُّطب، ثُم إنه لم يكن معروفًا فلا رَيْب في كونه ممكنًا، فلو كالها بعد الجذِّ، وأسلمها إلى المُشتري، يجوزُ البيعُ في العَرِيَّة عندنا أيضًا. فقد رام الشيخُ إخراج صورةٍ لتمشِيةِ تفسيرِ الشافعية على مذهب الحنفية، مع قطع النظر عما كان في الرُّطب في نَفس الأمر. وليس عندنا الآن غيرُ التخمين، فلا تعارض. ثُمَّ إني سألته عن سِرِّ هذا السؤال مرةً أخرى، فقال: إنَّ السؤالِ معقولٌ، لأن العَرَبَ يضعون الرُّطب في الزَّنبِيل، ثُمَّ يطؤونها بالأَرْجل، لتكتنز وتنسد الخلل. فتصير تمرًا بهذا الطريقِ. فلما لم يخرج منها الشَّيْرج، وبقي فيها، إذًا لا يكون الفَرْق بين رَطْبها، ويابِسها إلا قليل، وحينئذٍ ناسب السؤال، بخلاف سائر الثمار، فإنَّ الفَرْق بين رَطبها ويابسها ظاهرٌ لا حاجة إلى السؤال عنده، وعليك أن تتفكرَّ فيه، لينجلي لك حقيقةُ الحال، ولا تَضْرب بَعْض الكلام ببعض، إنما هو على طريق الأجوبة العديدة عن سؤال واحدٍ، ومعلوم أنها لا تكون على مَبْنى واحد، بل قد تكون على مباني مختلفة، ولا يُعَدُّ ذلك تعارُضًا، فافهم، فتلك شتات كلماتٍ أهديها إليكم. على انخرامها، رجاءً مِن الله أن يوجد مَنْ ينظمها في سِلْك واحدٍ، ويَصِلُني بدعوةٍ صالحةٍ، فإِنَّ المقام مزالُّ الأَقدام.

<<  <  ج: ص:  >  >>