للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

نَقْل مذهب الحنيفة، حيث يتبادر منه أَن الحنفية لا يبالون به، وَيَروْنه كعامَّة صِيغ العِتْق، مع أنك علمت أنه كُفْرٌ عندنا، أما تَمَسُّكُه بقوله صلى الله عليه وسلّم «إنما الأعمال بالنيات»، ولا نية للناسي، والمُخْطىء، فينبغي أن لا تُعتبر تصرفاتُه، فهو كما ترى. وقد مرَّ عليه البحثُ معنا مبسوطًا: إن الحديثَ لم يَردِ في صِحَّة الاعمال، وفسادِها أَصْلا، وإنما ورد في بركة الأعمال، ونمائها؛ فكونُ النية شَرْطًا للصِّحة خارجٌ عن مفهوم الحديث، وإذن التمسك به غيرُ تامّ.

٢٥٢٨ - قوله: (إنَّ الله تجاوَزَ [لي] عن أمتي ما وسْوَسَت به صدُورُها ما لم تَعْمل أو تتكلّم) وقد مرَّ عليه الطحاوي في «مُشْكلة» على نظيره، واختار فيه النَّصْبَ، ولم يجعل النفس فاعِلا، فيكون ههنا أيضًا النصب؛ وترجمته: "جوابنى سينون مين وسوسه دالين" (١).

واعلم أنه قد سَبَق إلى بَعْض الأَذهان أَنَّ العَزْم (٢) على المعصية أيضًا عَفْوٌ، كسائر مراتب الوَسْاوس، نظرًا إلى ظاهر هذا الحديث، لأنه وَرَد في صَدْره ذِكْرُ الوَسْاوس، ثُمَّ بلغ إلى عَمْل


(١) في "المعتصر": وذُكر من طُرُق، وأنفسَها بالنصب على معنى حدثتها به من غير اختيارها إياه، ولا اجتلابها له منها؛ ومما يَدُلُّ عليه أيضًا ما رُوي أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، إنَّ أحدنا يُحدِّث نفسه بالشيء، لأن يكون حممة، أحبّ إليه مِن أن يتكلم به، فقال: "الحمد لله الذي لم يقدره مِنْكم إلَّا على الوسوسةِ، قالوا: وإنْ كان قد قيل فيه: إنَّ أحدَنا يُحدِّثُ نَفْسه، أو إنا نحدِّثُ أنْفُسنا". كان جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياهم هو المعتمد عليه، وإليه قصدنا، وهو ما ذكره عنه ابن مسعود: "ذلك صَرِيحُ الإِيمان"، وفي الحديث دليل على صِحَّة النصب، وهو قوله: "تجاوز اللهُ". والتجاوُز لا يكونُ إلَّا عمَّا لو لم يتجاوز عنه. لَعُوقِبوا عليه؛ وذلك مما يُعْقل أنه لا يكون مِن الخواطر المَعْفُوِّ عنها، بل إنَّه من الأشياء المجتلبة بالهم بها؛ فالوجه أنه على ما يهُم به العبد من المعاصي ليعمَلها، فتجاوز الله تعالى لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فلم يؤاخذهم به، ولم يعاقبهم عليه؛ ومن ذلك ما رُوي مرفوعًا: قال الله عز وجل: "إذا همّ عبدي بحسنة" الحديث، فانتفى ما قال أهْلُ اللغة: "أَنْفُسُها" بالرفع، اهـ مختصرًا.
(٢) قال الشيخ بدر الدين العَيْني: والذي عليه الجُمهور انَّ مَن نوى المعصيةَ، وأصرّ عليها يكون آثِما، وإن لم يعملها، ولم يتكلم بها، قلت: التحقيق فيه أنَّ مَن عزم على المعصية بِقَلْبه، وَوطَّن نفسه عليها، أَثِم في اعتقاده وعَزْمه، ولهذا جاء بلفظ: الحِرْص فيه -أي في حديث التقاتل؛ أنه كان حريصًا على قتل صاحبه-، ويحمل ما وقع مِن نحو قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تجاوز لأُمتي" ... الخ. وفي الحديث الآخر: "إذا همّ عبدي بسيئةٍ، فلا تكتبوها عليه، إنَّ ذلك فيما إذا لم يُوطِّن نَفْسَه عليها، وإنما مرَّ ذلك بِفِكْره من غيرِ استقرار، ويسمى هذا هَمًّا، وإنْ عزم تُكتب سيئة، فإذا عملها كتبت معصية ثانية، انتهى مختصرًا، بتغيير. قلت: وأوضح منه ما قال صاحب "المدارك": لا تدخل الوساوس، وحديث النفس فيما يخفيه الإِنسان، لأن ذلك مما ليس في وُسعه الخُلُو منه، لكن ما اعتقده، وعزم عليه.
والحاصل أن عَزْم الكُفْر كُفْرٌ، وخَطرة الذُّنوب من غيرِ عزم مَعفوة، وعَزم الذُّنوب إذا نَدِم عليه ورجع عنه، واستغفر منه، مغفورٌ. فأما إذا هِمَّ بسيئةٍ، وهو ثابت على ذلك، إلا أنه مُنع عنه بمانع ليس باختياره، فإِنَّه لا يُعاقب على ذلك عقوبةَ فعله، أي بالعَزم على الزِّنا لا يُعاقب عقوبةَ الزِّنا؛ وهل يُعاقب عقوبةِ عَزم الزِّنا؟ قيل: لا، لقولِه عليه الصلاة والسلام: "إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل، أو تتكلم به، والجمهور على أنَّ الحديثَ في الخطرة دون العَزم، وأن المؤاخذةَ في العَزم ثابتةٌ، وإليه مال الشيخُ أبو منصور، وشمس الأئمةِ الحلواني؛ والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور: ١٩] الآية وعن عائشةَ: ما همَّ العبدُ بالمعصيةِ مِن غيرِ عمل يعاقب على ذلك مما يلحقه من الهِمِّ والحزن في الدنيا، اهـ. من أواخر سورة "البقرة".

<<  <  ج: ص:  >  >>