للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يَعْزِم عليها، ثُم إن غلبت عليه الشِّقْوة، وسبق القَدَر، فَقَد يَقْتَرِفها أيضًا، والعياذ بالله، فهذه الوَساوسُ هي التي وَرَدَ فيها الحديثُ، أما العَزْم على معاصي القَلْب نحو الأحقاد والضغائن، والشُّكوك في أَصْل الدِّين، فهذه الأفعالُ كلُّها ليست من الجوارح، بل أفعالُ القلب، فلم يَردِ فيها الحديثُ رأسًا؛ نعم، ومِن الأشياءِ ما تكون من أفعال الجوارح أولا، ثُم تصيرُ آخِرًا من أفعال القلب، كالانتقام لمظلمة. فإِنَّ الإِنسانَ يجتهد فيه مهما أمكن، فإِذا عَجَزَ عنه القلب حِقْدًا، فهي أيضًا داخلة في الأفعال القَلْبية آخِرًا. ومن ههنا عَلِمت السَّرَّ في عدم تَعَرُّض الحديث لهذا النحو من العَزْم، وهو أن الحديث إنما ورد في مبادىء أفعالِ الجوارح فقط، أما العَزْمُ على الأفعال القَلْبية، كالأخلاقِ الفاسدة، فليست من مبادىء أفعال الجوارح، كما علمت، بمعنى أنها لا تقع في مبادئها، فإِنَّها تقتصر على الباطن فقط؛ بخلاف النحو الأول، فإِنها تَنْبعث من الباطن، وتتقوَّى شيئًا فشيئًا حتى تُسخِّر الظاهِرَ أيضًا، فيتابعها تارة، ويركب تلك المعصية.

والحاصل أنَّ الحديث ورد في الوَساوِس التي تكون مبادىءَ لأفعالِ الجوارح، وسكت عن حُكم العَزْم عليها؛ وأما حُكْم سائر العزْم، ممَّا لا تعلُّق لها بتلك الأفعالِ، فهي خارجةٌ عن سياق الحديث.

ثم نُلقي عليك شيئًا لتفصيل المسألة، وهو أن مَرائِبَ القَصْد خَمْسٌ، ضَبَطَها بعضُهم في هَذين البيتين:

*مراتِب القَصْد خَمْسٌ: هاجسٌ ذكروا ... فخاطِرُ، فحديث النَّفس، فاستمعا

*يليه هَمٌّ، فَعَزْمٌ، كلُّها رفعت ... سوى الأخير، ففيه الأَخْذُ قد وقعا

فالخاطِر اسمٌ لما يَخُطُر ببالك، ولا يكون له استقرارٌ في الباطن؛ فان استقرَّ شيئًا يقال له: الهاجِس، وإن استقرَّ ولم يخرج، ولكن لم يترجح أحدُ جانبي الفِعْل، أو الترك عندك، يقال له: حديثُ النَّفس، فإِنَّ ترجَّح، وتَرَدَّدت فيه النَّفْسُ، فَهُمٌّ؛ وإن أَجْمَعَتْ عليه، فعزمٌ. ثُم إنَّ الثلاثةَ الأُوَل عَفْوٌ في طَرَفي الطاعة والمعصية، فلا ثوابَ عليها، ولا عقاب، أما الهُّم فهو عَفْوٌ في جانب المعصية، ومُعتبرٌ في جهة الطاعة.

بقِي العَزْم، فإِنَّه مُعتبر في الجهتين؛ ومَنْ ظنَّ أَنه عَفْوٌ لهذا الحديث فقد غَلِط. لا أقولُ: إنَّ العَزْم على المعصيةِ، كالعمل بها يعينه، بل هو دونه؛ فثوابُ العَزْم على الطَّاعة أَدْونُ من ثواب العمل بالطاعة، وكذا عِقاب العَزْم على المعصية، أَخفُّ من العمل بالمعصية. ثُم العَزْم إنْ بلغ إلى حَدِّ العمل حتى عُمِل بموجَبِه، فإِنْ كان على الطاعة تُكْتب له عَشْرُ حسنات، وإن كان على المعصيةِ لا تُكْتب له إلا سيئةٌ، وإنْ لم يبلغ إلى حَدِّ العمل، فإِنْ كان على الطاعة تُكْتب له طاعةٌ واحدةٌ، وإن كان على المعصيةِ تُكتب له معصيةُ العَزْم لا غير، فإِنْ كَفَّ عنها خَوْفًا من رَبِّه تُمحى عنه مَعْصيةُ العَزْم، وتُكْتب حسنةٌ مكانها، كما يُعلم مما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: قال الله تعالى: {إذا تحدَّث عبدي بأن يعمل حسنةً فأنا أَكْتُبها له حسنةً ما لم يعمل فإِذا عَمِلها فأنا أَكْتُبِها بِعَشْرةِ أمثالها إلى أن قال في السيئة وإنْ تركها فاكتبوها له حسنةً إنما تركها مِن جَرَّائي"

<<  <  ج: ص:  >  >>