القرآن. فإِنَّه يسايرُ الواقع شيئًا عند بيانِ الأحكام، فلا يَحْكي القِصَّة مرسلا، ولا يكتفي بِذِكر الأحكام بدون إيماءٍ إلى القِصة، فلما ركَّب نوعًا من النوعين أوْرَثَ ذلك تعقيدًا لا محالة، ولا سيما عند من لم يكن شاهدًا القصة فلا يَحْصُل له من العُنوان الجملي المَشْعرِ بها شيءٌ. والحاصل أنَّهم عَدُّوه مِن أَشْكَل آياتِ القرآن، ولا بأسَ أن نُشيرَ إلى بَعْضِها أيضًا.
قوله:({اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ})[المائدة: ١٠٦] والمرادُ منه الأجانبُ، أو الغيرُ في الدِّين، أي غيرِ المسلم؛ وعلى الثاني فيه إشكالٌ، كما سيأتي.
٢٧٨٠ - قوله:(وليس بها مُسْلِمٍ)، أشار الراوي إلى كونه غيرَ مُسْلم.
قلت: والمقررُ في شَرْعنا أن شهادَة الكافر على المُسْلم لا تُقبل؛ وهذه الشهادةُ كذلك، فيقال بالنَّسْخ، كما قال محمدٌ في كتاب «الآثار»، وهو مُشْكِلٌ عندي. والأَوْجَه أن يقال: إنها مُعتبرة في السَّفر (١) لمكانِ الحاجة، ثُم إنْ وقع التنازعُ حتى بلغ الأَمْرُ إلى القاضي، فإِنَّه لا يسمعها، وَيُردُّها، وَيُحكُم حسب القواعد.
ولقائلٍ أن يقول: إن المرادَ من قوله: {مِنْ غَيْرِكُمْ} هو الأجانبُ، وحينئذً لا يرِدش شيءٌ، وإنَّما يَرِدُ الاعتراضُ إذا فَسَّرناه بالكافر، وفيه أن الآيةَ وَرَدت في قِصَّة تميم، وكان حينئذً كافرًا؛ اللهم إلا أن يقال: إنه كان مسلمًا، كما في قولٍ غيرِ مشهور، فإِنه ثبت أنه جاء مَكَة مرةً، وأما إذا اخترنا القولَ المشهورَ، فلا سبيل إلى الجواب، إلا ما ذكرناه.
ثُم إنَّ روايةَ الترمذي تدلُّ على خيانةِ تميم هذا. والأَوْلى عندي إن يسِقط هذا اللفظ، ويُبَرَّأ ظهرُه مِن تلك الخيانة؛ فإِنَّه أَسْلم آخِرًا، وكان صحابيًا مخلِصًا، وكان في أَوَّلِ أَمْرِه نصرانيًا مِن الشام، وكان سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أن يَكْتُب له مِن الشام كذا وكذا. ولم يكن فَتْحٌ بعد، فكتب له النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فكان تميمٌ يومئذ كافرًا، ثُم لما فتح الشامَ أَعطى له ما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم كَتَبه له؛ وكان
(١) قال العلامة المارديني في "أصول أبي بكر الرازي": قوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: ١٠٦] خاص بالوصيةِ في السَّفَر، وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: ٢] خاصٌ بالرجعة، فكيف يُعترض بأحدهما على الأخرى. اهـ "الجوهر النَّقي"، قلت: وهذا هو المحمل الذي ارتضى به الشيخ.