للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

دار الحرب، وتَرْك الهجرة عنها. ودلَّ أيضًا على أن الاتكالَ فيه من فضائل الأُمور دون فرائضه، فإِنَّه ذَكَرَ الفرائِضَ في صَدْر الحديث، ثُم الاتكالَ بعدها، وقد مرَّ تقريره.

قوله: (مَابَيْنَ الدَّرَجَتَيْن، كما بينَ السَّماءِ والأَرْضِ) وهو كما عند التِّرْمذي عن ابن عباس: مسيرة خمس مئة عام. وقد تهافت فيما بعضُ الرُّواة، فذكرها مسيرةَ ثلاثٍ وسبعينَ عامًا، وسقط منه ذِكْر أربع مئة، مع بعض الكسر قطعًا؛ والصواب أها مسيرةُ أَربع مئة عام، وكذا سقط من رواية الترمذي ذِكْر الماء (١)، والكُرسيِّ، والعَرْش، والجنَّة، وليس فيها إلا بيانُ مسافةِ السموات.

قوله: (وفَوْقَهُ عَرْشُ الرحمن) وهو سَقفُ الجنَّة، وحينئذٍ لا بأس بكونِ عَرْش الرحمن سَقفًا لجميع درجات الجنة، مع كونِ بَعْضِها أوسط، وبَعْضِها أعلى.

واعلم أن ههنا مقامين: الأَوَّل في بيان مسافة درجات الجنة؛ والثاني في بيان حَيِّز الجنةِ. فنقول: إن مسافةَ الجنَّةِ مسيرةُ خمسينَ ألفَ سنةٍ. كما يلوحُ من رواية البخاريّ. فإِنَّ للجنَّةِ مئة درجة، وما بين كلِّ درجةٍ مسيرةُ خمسة مئة عام، فَبِضَرْبها في المئة يحصُلُ العددُ المذكور. ويَرِدُ عليه قولُه تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: ٤]، على تفسير؛ والناس في تفسيره مختلفون، فقيل: إنه مدةُ يومِ الحساب، وإن كانت المحاسبةُ فيه بلحظاتٍ (٢) يسيرة، وهي كما بين الظهر والعصر، كما في رواية؛ وهذا أيضًا حسابُ العوام. أما المقرَّبون فيحاسَبون في طَرْفَة عين (٣). وقيل: بل فيه بيانُ المسافة من الأرضِ إلى الجنة. وحينئذٍ ناقض الحديثُ ما في الآيةِ، فإِن تلك المسافة في الحديث مسافةٌ لدرجاتِ الجنَّة فقط، وبانضمام مسافةِ الأَرْض إلى السماء ومسافةِ السمواتِ فيما بينها تزيد على نحو أربعة آلاف، فلا يلتئم الحديثُ بالقرآن.

والجواب عندي أن المسافةَ في حديث البخاري هي مسافةٌ درجات الجنة فقط، وهي مسيرةُ خمسينَ ألف سنةٍ، وأما مسافة السمواتِ والأرض، فلم تتعرَّض إليها روايةُ البخاري، وذكرها الترمذيُّ. فروايةُ الترمذيِّ تعرضت إلى مسافةِ العالم السُّفْلي فقط، أي من الأرض إلى السموات، وروايةُ البخاريّ دَلَّت على مسافةِ العالم العُلْوي فقط، وهي من السموات إلى


(١) يقول العبد الضعيف: وفي "المشكاة" روايةٌ عن الترمذي، وأبي داود عن العباس بن عبد المطلب في حديث بيانِ مسافةِ السموات، قال: "إنَّ بُعْد ما بينهما، إما واحدةٌ، وإما ثِنْتان، أو ثلاثٌ وسبعونَ سنة، والسماء التي فَوْقَها كذلك. وهذه هي مسافةٌ نَبَّه عليها الشيخُ، ثم قال: فوق السماءِ السابعةِ بَحْرٌ بين أعلاه وأسفلِه، كما بين كلِّ سماء، ثُمَّ فوق ذلك ثمانيةُ أَوْعال بين أظلافِهن وَوِرْكِهن مثلُ ما بين سماءٍ إلى سماءٍ، ثُم على ظهورِهنَّ العَرْشُ".
وجمع الحافِظُ بينهما، كما في "بدء الخلق" بأنَّ اختلافَ المسافةِ بينهما باعتبار بطء السَّير وسُرْعَته، اهـ. والشيخ قُدِّس سِرُّه لم يكن يتصدِّى لوجوهِ التَوْفيق بين أوهامِ الرُّواةِ، وهو السبيلُ الأقْومُ.
(٢) روى البَيهقي في "كتاب البعث والنشور"؛ عن أبي سعيد الخُدْري، قال: سُئل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن يوم كان مقدارُه خمسينَ ألف سنةٍ، ما طول هذا اليوم؟ فقال: والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمنِ حتى يكونَ أهونَ عليه من الصلاة المكتوبةِ يصلِّيها في الدنيا، كذا في "المشكاة" من باب الحساب، والقصاص، والميزان".
(٣) قلت: ومن ههنا ظهر المرادُ من قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: ٣٩]، مع كونِ يوم الحسابِ طويلًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>