وعلى التقديرين لا منافاة بين الروايتين، ومنه يظهر أن اعتراض السيوطي رحمه الله تعالى على القُرطبي وابن القيم رحمهما الله تعالى لم يقع في محله، حيث قال في "شرح الصدور": قال ابن عبد البر: لا يكون السؤالُ إلَّا لمؤمن أو منافق كان منسوبًا إلى دين الإسلام بظاهر الشهادة، بخلاف الكافر فلا يُسأل وخالفه القُرطبي وابن القيم وقالا: أحاديث السؤال فيها التصريح بأَنَ الكافر المنافق يسألان. قلت: ما قالاه ممنوع فإنه لم يجمع بينهما في شيء من الأحاديث وإنما ورد في بعضها ذكر المنافق، وفي بعضها بدله الكافر، وهو محمول على أن المراد به المنافق بدليل قوله في حديث أسماء، وأما المنافق أو المرتاب ولم يذكر الكافر. انتهى. وقال: وذلك لما تبين أن حديث أنس رضي الله عنه في الصحيح فيه الجمع بين المنافق والكافر بالواو العاطفة، وهو أول حديث أورده السيوطي في باب فتنة القبر وسؤال المَلَكين في كتابه "شرح الصدور" ولكن الله تعالى يقول: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: ٥٦] ولا دليل في حديث أسماءَ على حمل الكافر على المنافق، إذ ليس فيه إلّا الترديد بين المنافق والمرتاب، فإن قلنا: إن الترديد للشك وإن المنافقَ والمرتابَ متساويان، فغايته أن يكون كرواية الترمذي في إفراد المنافق بالذكر، ولا دليل في ذلك على انحصار السؤال فيه لما مر، وإن قلنا بأن المرتاب أعم لجواز أن بعضَ من بلغتهُ دعوةُ الإِسلام ولم ينطق بالكلمةِ لا يكونُ جازمًا بالتكذيب. وإن قلنا إن الترديد لمنع الخلو فالأمر واضح، إذ غاية ما فيه الترديد بين المنافق وبين الكافر المرتاب، وقد تبيَّن أن إفرادَ المنافقِ بالذكر لا يدل على انحصارِ السؤالِ فيه، فكيف إذا ذكر معه بعض الكفار. ثم السؤالُ عند السيوطي رحمه الله ليس وجه الحكمة فيه منحصرًا في امتحان المسلم الخالص من المنافق حتى يكون موجبًا لحمل الكافر على المنافق، فإنه قال في رسالته التي سماها: "الثريا بإظهار ما كان خفيا": إنما المقصود من السؤال أمور: أحدها إظهارُ شرفِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وخصوصيَّتهِ ومزيته على سائر الأنبياء، فإن سؤال القبر إنما جُعل تعظيمًا له وخصوصية شرفٍ، بأن الميت يُسأل عنه في قبره، انتهى. وهذا جار في كل من بلغتهُ دعوة الإسلامُ وقد جرى عليه السيوطي رحمه الله تعالى في تكملة "تفسير الجلال المحلي" حيث قال في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} هو كلمة التوحيد {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: ٢٧] في القبر لما يسألهم الملكان عن ربهم، وعن دينهم وعن نبيهم، يُجيبون بالصواب كما في حديث الشيخين: "ويُضِلُّ الله الظالمينَ" الكفار فلا يهتدون للجواب بالصواب، بل يقولون: لا ندري، كما في الحديث. وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في "فتح الباري" في باب ما جاء في عذاب القبر: قوله: وأما المنافق والكافر في هذه الطريق بواو العطف، وقد تقدم في باب خفق النعال، وأما الكافر أو المنافق بالشك وساق رواياتٍ مختلفة لفظًا، فقال: وفي رواية أبي داود: وإن الكافر إذا وضع وكذا لابن حِبَان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وكذا في حديث البراء الطويل، وفي حديث أبي سعيد عند أحمد: وإن كان كافرًا أو منافقًا بالشك، وكذا في حديث أسماء، فإن كان فاجرًا أو كافرًا، وفي الصحيحين من حديثها: وأما المنافق أو المرتاب، وفي حديث جابر عند عبد الرزاق وحديث أبي هريرة عند الترمذي: وأما المنافق، وفي حديث عائشة عند أحمد وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما: وإن كان من أهل الشك، ثم قال: فاختلفت هذه الروايات لفظًا وهي مجتمعة على كل من الكافر والمنافق يُسأل ففيه تعقب على من زعم أن السؤالَ إنما يقع على من يدَّعي الإيمانَ إن محِقًّا وإن مبَّطِلًا. ومستندهم في ذلك ما رواه عبد الرزاق من طريق عبيد بن عُمير أحد كبار التابعين قال: إنما يفتن رجلان مؤمن ومنافق، وأما الكافر فلا يُسأل عن محمد ولا يعرفه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا موقوف، والأحاديث النَّاصة على أن الكافر يُسأل مرفوعةٌ مع كثرة طُرقها الصحيحة، فهي أولى بالقُبُول، وجَزَمَ الترمذي الحكيم بأن الكافرَ يُسأل. انتهى.