قال الشيخُ الأكبرُ: إن السؤالَ أين كان بعد وجود الخَلْقِ، ولو في الجملة. فإن سؤالَ الأَينِيَّة، لا يَتَأَتَّى إلَّا بعد وجوده. فإذا وُجِد شيءٌ دون شيءٍ توجَّه السؤالُ، أنه أين كان؟ في عَمَاءٍ أو غَيره، على العرش أو فوقه، أو تحته. فالسؤالُ بالأين لا يُعْقَل إلَّا بعد وجود شيءٍ سواه. واختلف العلماءُ في "ما": أنها نافيةٌ، أو موصولةٌ، وإلى كلٍّ ذَهَبَ ذاهبٌ. وكنتُ معه في سفر إذ سَألَ الشيخَ بعضٌ من المتنورين عن مادة العالم، فَأَعَاد عليه القولَ، فقال: هاتِ ما عندك؟! كأنه زَجَرَهُ على سؤاله، حيث رآه مُتَعَنِّتًا، فجعل الرجل يتكلَّم، كجعجعة ولا طحين، ثم قال له: وإذ قد عَجَزْتَ عن بيان ما ثَبَتَ في الفلسفة الجديدة، فاسمع منِّي أولًا ما هو المحقَّقُ عندهم، ثمَّ أُخبِركَ بما ثبت عند الشرع: إن مادةَ العالم عندكم مادةٌ مبثوثةٌ في الجو تسَمَّى /بايتهر/، وقد كان قدماؤهم يَزعُمُون أنه بسيطٌ لا جزءَ له، وإن ثَبَتَ اليوم عندهم خلافه، وحقَّقوا شيئًا آخرَ ألطف منه. وأمَّا في لسان الشرع: فهي العَماءُ، وقرَّره فى نحو نصف ساعة، وأتى بنقول العلماء من العهد الجديد والقديم، ونقَّح كلماتهم في هذا الباب. وفي ضمن ذلك مرَّ على وجود السموات، وحقَّقها، حتى أن بُهِتَ الرجل، ودُهِشَ. وحينئذٍ عَلِمَ أن الفضلَ بيد الله تعالى، يُؤْتِيهِ من يشاء. (١) قلتُ: من أَرَادَ الاطلاعَ على جوانبه وأطرافِه، فليراجع له "روح المعاني"، فإنه تكلَّم فيه الشيخ الأَلُوسي رحمه الله تعالى، وفي ضمنه تعرَّض إلى العَمَاءِ شيئًا. (٢) قلتُ: وقد تمسَّك الشيخُ الأكبرُ بالاستثناء من قوله تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: ١٠٧] أيضًا، ولا ريبَ أنه قويٌّ جدًا، وسنذكر وجه التفصِّي عنه إن شاء الله تعالى. فانظر غايةَ اعتدال الشيخ -قُدِّسَ سرُّه- واستحكامُه في العلوم، وأنَّ قَدَمَهُ لم تَكُنْ تَزِلُّ عن مسلك الجمهور في موضع زَلَّتْ فيه أقدامُ الفحول، كالشيخ الأكبر، والحافظ ابن تَيْمِيَة. والعجبُ أنه كان من معتقديهم، ثم لم يكن يَرْكَنُ إلى تفرُّداتهم أصلًا. وهذا الاعتدالُ، والنَّصَفَةُ في حقِّ الكِبَارِ، ممَّا يَكَادُ يتعذَّر اليوم.