قلت: هذا كلامٌ باطلٌ، فإنه خلاصةَ الحديثِ الوعدُ بالأجرين على العملين، وليس الكفرُ الصريحُ من البرِّ في شيء يستحقُ عليه الأجر، فلم يبق حينئذٍ إلا عملٌ واحد وهو الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلّم وهو وإن كان من أبرِّ البرِّ وأزكى الأعمال، وأسنى المقاصد، لكنه عملٌ واحد لا يستحقُ عليه إلا أجرًا واحدًا. نعم، أجرُهُ يكون وِزَانُ عمله وهذا أمرٌ آخر.
وعندي حديثٌ صريحٌ في أنَّ الآيةَ عامةٌ، وأن الأجرين بالإيمان بنبيه وبالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلّم فعند النسائي في تأويل قول الله عز وجل:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة: ٤٤] في حديث طويل فقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ}[الحديد: ٢٨] أجرين: بإيمانهم بعيسى وبالتوراة وبالإنجيل، وبإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلّم .. إلخ، فهذا أوضحُ دليلٍ على أن الأجرين على العملين من إيمانهم بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلّم ولما عجز الحافظ رحمه الله تعالى عن الجواب التزم هذا الباطل.
والذي عندي هو أنَّ عبد الله بن سلام وأمثاله أيضًا يَستحقُّونَ الأجرين، والذين دخلوا تحت النصِّ داخلون في قوله:«أهل الكتاب» أيضًا، ولا يردُ شيءٌ، لأن الذين كفروا بعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام وحَبِطَ إيمانهم، فإنهم الذين بُعث عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام فيهم، ودَعَاهم إلى شريعته، أي بني إسرائيل، فلما أبوَا هلكوا كما قصَّهُ اللَّهُ سبحانه، أما يهود المدينة فلم تبلغ دعوتُهُ إليهم، ولا وُجد منهم الانحراف عنها، وإنما أمرُهُم كما في التاريخ أنهم فروا من الشام إلى العرب حين اجتاحهم «بخنتصر» وبعد فرارهم بمئتين سنة بُعث عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام في الشام.
فالذين تمت عليهم الدعوةُ بالتوحيد والشريعة جميعًا هم يهودُ الشام، أما يهود المدينة فلم تصل إليهم الدعوة أصلًا. كما في «الوفا» أنه وُجِد في جانب من المدينة حجر عند تلَ مكتوبٌ عليه: هذا قبرُ رسولُ رسول الله عيسى عليه السلام، جاء للتبليغ فلم يُقدَّر له الوصول إليهم. وقد وقع فيه تحريفٌ في «تاريخ الطبري» فسقط لفظ: الرسول، وصارت صورته هكذا: هذا قبرُ رسول الله عيسى، وكثيرًا ما يسقطُ اللفظُ المكرر عند الكتابة ويتكرر اللفظ الواحدُ.
فشغب به الطائفة الباغية قاديانية وزعمت أنه أصرحُ دليل لهم على وفاة عيسى عليه السلام. وهذا هو دَيْدَنُ الزائغين من بدء الزمان، يستفيديون من أغلاطِ الرواة وتحريفِ الناسخين، ويتَّبِعُون ما تشابه منه، وأما الرَّاسخون في العلم فيتبعون المحكمات ويأخذون العلم من مكانه، قاتلهم الله ما أجهلهم أيتمسكون بما في الطبري ولا يستحيون أن تلك الواقعة بعينها موجودةٌ في «الوفاء» وفيه رسول رسول الله عيسى، فطاح ما ركبوا عليه من الجهل. وقد حقق أهل أوربا مجيء حواريين في الهند أيضًا، وقالوا: إنهما دُفِنا في بلدة مدارس، وكذلك حواريان مدفونان في إيطاليا، وحواري في تبت. وهكذا ثبتَ ذهابهم إلى يونان وقسطنطينة، أيضًا. والذي يدلك على أنهم لم يذهبوا إليهم من عند أنفسهم بل بعثهم عيسى عليه السلام: أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما كتب كُتبًا إلى النَّجاشي والمُقَوْقَس ودُومة الجندل وغيرهم قال لأصحابه: «إني أبعثُكم كما بَعثَ عيسى عليه السلام الحواريين».