قبل. وهذا كلُّه قبل هذه الشريعة الآخرة، وأما بعدها فلا يسعُ لأحدٍ الانحراف عنها بحال:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}[آل عمران: ٨٥].
وبالجملةِ دعوةُ التوحيد لا تختصُ بنبي دون نبي، بل هي عامة مطلقًا. وأما الدعوة إلى شريعته فخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلّم بمعنى أنه يجب أن يدعوَ إليها جميع من في الأرض، وقد تمت على أيدي الخلفاء الراشدين. وأما سائر الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام فكانت دعوتهم إلى شرائعهم مقصورة على أقوامهم وتبليغُ من سواهم كان في اختيارهم، ولم يكن فريضة عليهم. والسر في شُهرةِ عموم بِعثة هذين النبيين أنه لم يُبْعث لمناقضةِ الكفر غيرُ هذين. أما موسى وعيسى عليهما الصَّلاة والسَّلام فإنهما بُعثا إلى بني إسرائيل وكانوا مسلمين نَسَبًا فإنهم من أولاد يعقوب عليه الصَّلاة والسَّلام، بخلاف نوح عليه الصَّلاة والسَّلام فإنه أول من ناقض الكفر، ولذا لقِّب بني الله، وكذلك إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من رد على الصابئين وأسس الحنفية.
والنبي إذا رد على شيء يكون عامًا لجميع البلاد وهذه مقدمةٌ ينبغي أن يُبحث عنها أن النبي إذا ردّ على شيءٍ فهل يقتصرُ ردُّه على من بُعث إليهم أو يعمُ لمن في الأرض. وهذا في باب العقائد ظاهر، فإنها مشتركة في الأديان كلها فيعم الرد قطعًا، وأما في الشريعةِ ففيه نظرٌ، فالعموم من هذه الجهة، وللقومِ أجوبةٌ أخرى فليراجعه من «الفتح»(١).
إذا علمتَ هذا فاعلم أن عبد الله بن سلام إنما هو ممن بلغ إليه خبر عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام، ولا نظن بمثل عبد الله بن سلام إلا أن يكون صَدَّقَه لما قد علمنا من سلامة فطرتِهِ حين حضر بمجلس النبي صلى الله عليه وسلّم وانطلق لسانُهُ بعد نظرة، بأن هذا الوجه ليس بوجه كذاب فلا نسيءُ به الظن. ولا نقول: إنه لم يصدقه، فإذا كان كذلك فقد كفاه عن عهدة الدخولِ في شريعته، لأنه لم تبلغ إليه الدعوة إلى شريعته وإن بلغ إليه خبره كما علمت، نعم لو كان بلغ إليه وصي عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام ودعاه إلى شريعته، لوجب عليه الدخول في شريعته أيضًا، ولكنه لم يصل إليه ومات دونه فكفَاهُ تصديقهُ به لإحراز أجر إيمانه.
وحينئذٍ بقاؤُه على اليهودية وعمله بالتوراة لا يمنعُ عن تحصيل الأجر، فلما ظَهَر النبي صلى الله عليه وسلّم وآمن به أيضًا حصل له الأجر مرتين، لأنه أحرز إيمانَه مرة من قبلُ، وهذا إيمانٌ ثانٍ فيحصل له الأجر أيضًا. نعم، الذين كانوا في الشام وأنكروا به لا يحصلُ لهم بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلّم إلا أجرٌ واحد، بخلاف مَنْ كانوا في المدينة، فإنه ليس عليهم إلا التصديق لعدم بلوغ دعوة الشريعة إليهم، وكانوا على دين سماوي من قبلُ فيُحرزُون الأجر مرتين.
فإن قلت: وفي المعالم أن عبد الله بن سلام جاء النبي صلى الله عليه وسلّم مع ابن أخيه، وقال: لو آمنت
(١) قلت: إن عموم بعثتهما لزومًا كان أو قصدًا بأي معنًى أخذتُه، إنما كان لأهل زمانهما، بخلاف عموم بعثة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فإنه مبسوطٌ على البَسيطةِ طولًا وعرضًا يعني تحبط على جميع من في الأرض إلى يوم القيامة، ولا يختص بزمان، فلا شركة فيه لأحد، والله تعالى أعلم.