للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

"أن داودَ عليه الصلاة والسَّلام لمَّا أَمَرَهُ سبحانه أن {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: ١٣]، قسَّم أيامه للعبادة، فجعل يومًا لنفسه، ويومًا لِعِيَالِهِ، ويومًا لعبادة ربِّه، ويومًا لفصل الخُصُومَاتِ. ومرَّ على ذلك زمانٌ حتَّى أعجبه النظم لعبادته، فَفَرِحَ بذلك، وظنَّ أنه قَلَّ منهم من يكون عنده نظمٌ في العبادة مثله، فقيل له: يا داود إنا نُفْتِنُكَ، فقال: علِّمني اليوم الذي أُفْتَتَنُ فيه. فقال له ربه: لا. فابتلاه ربه، بأن صَعِدَ الملائكةُ على جدار بيته، واسْتُفْتُوهُ عن قضيةٍ مفروضةٍ: له تسعٌ وتسعون نعجةً ... إلخ، سواء كان المراد منها الشاة، أو غيرها. فَقَضَى داودُ عليه الصلاة والسلام منهم التعجُّب، أنهم كيف وَصَلُوا إليه في يوم عبادته مع الحراسة، والانتظام الشديد، وقد تمَّ الابتلاءُ بهذا القدر فقط.

قوله: ({فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ})، فيه دليلٌ على مذهب الحنفية: أن الركوعَ يَنُوبُ عن سجود التلاوة. واسْتَحْسَنَهُ الرازيُّ في "تفسيره". وأَوْرَدَ عليه الشيخ ابن الهُمَام (١) أنه لَمَّا كان المقصودُ من لفظ الركوع هو السُّجُودُ، لم يَتِمَّ الاستدلال، لأن


= حدَّثنا إسماعيل بن محمد الفقيه -بالري-: أنبأنا أبو حاتم محمد بن إدريس: أنبأنا سليمان داود القاشميري: حدَّثنا عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن موسى بن عُقْبة، عن كُرَيب، عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما، قال: "ما أصاب داودَ ما أصابه بعد القدر، إلَّا من عَجَبٍ، عَجِبَ به من نفسه، وذلك أنه قال: يا ربِّ، ما من ساعةٍ من ليلٍ ولا نهارٍ إلَّا وعابدٌ من آل داود يَعْبُدُكَ: يُصَلِّي لك، أو يُسَبِّحُ، أو يُكَبِّرُ، وذكر أشياء، فَكَرِهَ اللهُ ذلك، فقال: يا داود، لم يَكُن إلَّا بي، فلولا عَوْني ما قويت عليه، وجَلَالي لأَكِلَنَّكَ إلى نفسكَ يومًا، قال: يا رب، فأخبرني به، فأصابته الفتنة ذلك اليوم". اهـ. هذا حديثٌ صحيحُ الإِسناد، ولم يخرِّجاه، "المستدرك".
قلتُ: وأَخْرَجَهُ بعضُ المحقِّقين في شرحه على المنظومة في علم الكلام في تحقيق: أن العبدَ هل لقدرته تأثيرٌ بإذن الله، وتمكينه، وعونه، ومشيئته أو لا؟ فَذَكَرَ السِّحْرَ، وأنه مؤثِّرٌ، وإن لم يَكُنْ بالذات، وتمسَّك له بقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة: ١٠]، فَيُفِيدُ أنه يَضُرُّهم شيئًا بإذن الله. ومن ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: ٤٢]، وما دلَّ عليه الاستثناءُ ههنا منصوصٌ عليه في النحل: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} ... إلخ [النحل: ١٠٠]، ويُنَاسِبُه ما في "الدر المنثور" في سورة الصافات من قوله: وأخرج أحمد في "الزهد"، وابن أبي حاتم، وابن عساكر، عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما، قال: "إن الشيطانَ عَرَجَ إلى السماء، فقال: يا رب، سلِّطني على أيوب، قال الله: سلَّطْتُكَ على ماله وولده، ولم أسلِّطْكَ على جسده، إلى أن قال: فرنَّ إبليسُ رنَّةً سَمِعَها أهلُ السماء، وأهلُ الأرض. ثُمَّ عَرَجَ إلى السماء، فقال: أي رب، إنَّه قد اعْتَصَمَ، فسلِّطني عليه، فإنِّي لا أستطيعه إلَّا بسلطانك، قال: قد سلَّطْتُكَ على جسده، ولم أسلِّطْكَ على قلبه"، الحديث بطوله.
ومن ذلك ما في "الدر المنثور" في سورة ص من قوله، وأَخرَجَ الحاكمُ، وصحَّحه، والبيهقيُّ في "شعب الإِيمان"، عن ابن عبَّاس قال: "ما أَصَابَ داود ما أَصَابَهُ"، فذكر الحديث بطوله. اهـ. فإن شِئْتَ تفصيلَ المرام، فراجع "الفوائد على القرآن" لمحقِّق العصر الشيخ شبير أحمد، صاحب "فتح الملهم".
(١) قلتُ: ولم أجِدْه في "فتح القدير"، فلعلَّه ذَكَرَهُ في تصنيفٍ آخرَ له، أو كان أَخطَأ بصري، أو زَلَّ قلمي، فإنِّي لم أجِدْ فرصةً لمزيد التحقيق. فإذا وَجَدْتُ عبارةً في مسارح نظري بهذه العَجَلَةِ ذَكَرْتُهَا، وإن لم أجِدْهَا نبَّهت عليه، فَلْيُلْحِقْهَا المتيقِّظُ بموضعها إن وَجَدَهَا. ويمكن أن يكونَ في "التحرير"، أو في "الفتح"، في موضعٍ آخرَ. والله تعالى أعلم بالصواب.

<<  <  ج: ص:  >  >>