وقد بيَّنَّا المذاهبَ في القَسَامَةِ فيما مرَّ، وحاصلُه: أن مالكًا يقول: إن الأيمانَ تتوجَّهُ فيها إلى أولياء المقتول أوَّلًا، فَيَحْلِفُ منهم خمسون على مَنْ لهم لَوْثٌ أنه قتله، فإن فَعَلُوا استحقُّوا القِصَاص، فيقتصُّ منه، وإرَّ يَنْصَرِفُ اليمينُ إلى أولياء المدَّعي عليهم. وأنكر الشافعيُّ القِصَاصَ رأسًا، وذَهَبَ إلى هَدْرِ الدم مطلقًا، فيما لم يُحَلِّفْ أولياءَ المقتول، وحلَّف المدَّعى عليهم أنهم لم يَقْتُلُوه، ولا عَلِمُوا قاتلَهُ. وأمَّا إمامُنَا، فقد مرَّ على أصله، ولم يَقُلْ بابتداء اليمين على المدَّعِي، ولكنه عليه البينة، واليمينُ على من أَنْكَرَ. وبه قضى عمر في خلافته، وإليه مال البخاريُّ، لأنك قد عَلِمْتَ من دَأْبه أنه يتمسَّك من شرائع من قبلنا أيضًا. وهو المسألةُ عندنا فيما لم يَنْزِلْ فيه شَرْعُنِا، ولم يَنْقُضْه أيضًا. فإذا كانت القَسَامَةُ في الجاهلية، كما اختاره الحنفية، ولم يَنْزِلْ شرعُنا بخلافها، كانت حُجَّةً لنا. ولذا أَخْرَجَهَا المصنِّفُ، كأنه أَشَارَ إلى بقاء حُكْمِهَا بعد الإِسلام.
أمَّا قصَّةُ حُوَيْصَة ومُحَيِّصَة، وقتل عبد الله بن سَهْل بخَيْبَرَ، فتلك لمَّا كانت مُخَالِفَةً له لم يُخَرِّجْهَا في القَسَامَةِ، وأخرجها في موضعٍ آخرَ. ثم إن القَسَامَةَ فيها، كما عند أبي داود، في باب ترك القود بالقَسَامَةِ، وَرَدَتْ على مَلْحَظ الحنفية أيضًا، هكذا: عن رافع بن خَدِيج، قال:«أصبح رجلٌ من الأنصار مقتولًا بِخَيْبَرَ، فانطلق أولياؤه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فَذَكَرُوا ذلك له، فقال لهم: شاهدان يَشْهَدَانِ على قتل صاحبكم؟ قالوا: يا رسول الله لم يَكُنْ ثَمَّةَ أحدٌ من المسلمين، وإنما هم يهود، وقد يَجْتَرِئُون على أعظم من هذا. قال: فاخْتَارُوا منهم خمسين، فاسْتَحْلِفُوهم، فَأَبُوا، فَوَدَاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم من عنده». اهـ.
وفي رواية بُشَيْر بن يَسار عنده: «فقال لهم: تَأْتُوني بالبيِّنة على من قتل؟ قالوا: ما