جرت تلك الكلمةُ على لسانه. ولما كانت على طريق الأذكارِ دون الإِيمان فلا يحكم بالكفرِ على مَنْ لم تجر تلك الكلمة على لسانه. ومعنى الآخرية أن لا يجري على لسانه بعدها شيء من كلام الدنيا، فمن قالها وأغمى عليه ليلًا مثلًا ومات فيه ولم يفق، فإِنه يُرجى له هذا الأجر الموعود إن شاء الله تعالى.
قوله:(إذًا يْتكلوا) قد يسبقُ إلى الأذهان أن المرادَ منه الإتكالَ عن الفرائض، لأن الكلمةَ المجردة إذا صارت كفيلةً للنجاة فلم تبق حاجةٌ إلى الأعمال الأُخر. وليس بمراد قطعًا بل المرادُ الإتكال من فضائل الأعمال وفواضلها، لأن الإِنسانَ أرغبُ في دفع المضرة من جلب المنفعة، فإِذا علم أنَّ الكلمةَ والفرائض تكفي له لدفع النار، ذهب يقنع عليها، ويتكاسل عن النوافل، ولا يسابق إلى المدارج العليا.
وقد حكى الله سبحانه عن فطرته تلك بقوله:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ... الخ}[الآنفال: ٦٦] فالإِنسان لا يزالُ مجتهدًا في آخرتِهِ، فإِذا تيقنَ نجاته فتر. وهذا أمرٌ مركوز في خاطره، ولذا منعه النبي صلى الله عليه وسلّم عن إخباره لأن الاكتفاءَ بالفرائض والافترارَ عن الفضائل نقيصةٌ لهم وحِرمان عن الطبقات العُلى، فأحب أن لا يتكلوا ويجتهدوا في معالي الأمور، لأن الله تعالى يحب معالي الهمم، وقد مدح حسان النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله:
*له هممٌ لا مُنتَهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر
والدليل على أن المراد من الإتكال هو الإتكال عن الفرائض وأنه في طلب الدرجات ما رواه الترمذي عن معاذ بن جبل في هذا الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من صام رمضان، وصلى الصلاة، وحَجَّ البيَت لا أدري أذكرَ الزكاة أم لا؟ - إلاّ كان حقًا على الله أن يغفرَ له إن هَاجَرَ في سبيل الله، أو مكث بأرضه التي ولد بها» قال معاذ: ألا أخبر بها الناس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ذر الناسَ يعملون فإِن في الجنة مئة درجة .. والفِردوسُ أعلى الجنة ... فإِذا سألتم الله فاسألوه الفِردوس. ففيه ذكرُ الفرائض أيضًا والتحريض على الدرجة العليا، فانكشف أنه لم يَردْ في الحديث المجمل الإتكال عن الفرائض.
وأن الحديث لا يختصُّ مرادهُ بكونه قبل نزول الأحكام. كيف وترك الفرائض لا يُرجى من عوام الناس؟ شأن الصحابة رضي الله عنهم أرفع. وعند الترمذي عن معاذ أيضًا قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلّم في سفر فأصبحت يومًا قريبًا منه نحن نسير، فقلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يُدخلني الجنة ويباعدني عن النار. قال لقد سألتني عن عظيمٍ وإنه ليسيرٌ على من يسَّرَه الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتأتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» ... إلخ. ففيه أيضًا ذكر الفرائض بتمامها.
وأيضًا عند البخاري وهو وإن كان عن أبي هريرة لكن المضمون واحد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم «من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقًا على الله أن يُدخله الجنة، جاهدَ في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها» قالوا: يا رسول الله أفلا نُبشر الناس؟ قال:«إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله».