واعلم أنَّ العبوديةَ هي مناطُ الخلافة عندي، وإن اختار المفسرون، أنه العِلْم، وذلك لأنَّ الخَلْق إذْ ذاك كان على ثلاثةِ أنواع: إبليس، فإِنَّه ناظر رَبَّه ولم يكن له ذلك، فصار مَطْرودًا ملعونًا؛ وملائكة اللَّهِ، فإِنهم أيضًا لم يتخلَّصوا عن إساءةِ أدبٍ، فلما تابوا عفا عنهم؛ والثالث آدَم، وهذا هو الذي لما عاتبه رَبُّه لم يتكلم بحرف، ولم يواجهه إلَّا بالبكاء، مع أن موسى عليه الصلاة والسلام لما حاجَّه في عين تلك المعصيةِ حَجّ عليه، وذلك دليلٌ على كمال عبوديته، غير أنها أَمْرٌ خَفِيٌّ، ومعنًى مستورٌ، لا يَظْهَر بها الحُجَّة على الخَصْم، وكان العِلْم أظهرَ الأشياء، لإِثبات فَضْل أَحدٍ على أحد، فاقتضت الحِكْمةُ الإِلهِيةُ أن يَخُصَّه بهذا الفَضْل أيضًا، ليرى مكانَه، ويحرِزَ مَنْزلَته، وقد فصَّلناه في غير هذا الموضع. ثُم إنَّ من سرِّ عَقْد الخلافة ظهورَ المُطيع من غيره، لأنه ليس من المخلوق أَحَدٌ مَنْ يُنْكِر طاعةَ خالِقه، وإنَّما يَشُقُّ على المخلوقِ طاعةُ المخلوقِ، لكونه من جنسه، ولذا كَبُر على إبليسٍ السجودُ لآدَم عليه السلام، فاللَّهُ سبحانه أرادَ أن يُميِّزَ المُطيعَ مِن غيره، وأَمَر الملائكةَ أن يَسْجُدوا له، فسجدوا كلُّهم، وأَبى إبليسٌ لذلك المَعْنى، ولا يزال ذاك التمييزُ يجري إلى يوم القيامة، ولنا فيه كلامٌ طويلٌ، طَوَيْنا ذِكْره.
قوله:({وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}[البقرة: ٣١]) والمرادُ منها أسماءُ الأشياء التي لا بدَّ من عِلْمِها، والعمومُ فيه كالعموم في قوله:{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}[النمل: ٢٣]، ألا ترى أن اليهودَ لما سألوا عن الرُّوح، وأُجِيبوا بقوله:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء: ٨٥] قالوا: كيف وعندنا التوراةُ فيها تفصيلٌ لكلِّ شيءٍ، فقيل لهم كما في «سيرة ابن هشام»: هي في عِلْم الله قليل، فانكشفت منه حقيقةُ الكُلِّ، وحال استغراقه؛ وبالجملة لما كان آدمُ عليه الصلاة والسلام أبا البشر، ومِنْ صُلْبه خرج العالَم، لزِم أن يَعْلم أَولًا من أسماء الأشياء ليجرِّبَها فيما بعده، وتتعلم منه ذريَّتُه، وتستعملها فيما بينها، ولا تتعطَّل عن حوائجها، فاتضح منه سرُّ تعليم الأسماء كُلِّها إيَّاها.