ما في اللوح المحفوظ. أما ترتيبُ النُّزول فغيرُ ذلك، فإِنّه كان يَنْزِل نَجْمًا نَجْما على حسب الحوائجِ، والناسِخُ كان متأخِّرًا في ترتيب النُّزولِ قَطْعًا. أما في الترتيبِ الموجودِ الآن، فهو أيضًا كذلك، إلَّا في هذه الآيةِ، فإِنَّ العِدَّة فيها بأربعةِ أَشْهر وعَشْرًا، وفي الآية {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} العِدَّة بالحَوْل. قال الجمهورُ: إنَّ المتوفَّى عنها زَوْجُها كانت تَعْتدُّ بالحَوْل، ثُم نسخها اللَّهُ تعالى بأربعةِ أَشْهر وعَشْرًا، مع أنَّ الناسِخَ ههنا مُقَدَّم، والمَنْسوخَ متأَخِّر، وهذا مُشْكِل، فإِنَّهم قالوا: إنَّه ثَبَت بالاستقراءِ أنَّ الناسِخ في القرآن متأخِّرٌ عن المنسوخِ، فلو سَلَّمنا أن استقراءهم تامُّ، وَرَدت عليهم هاتان الآيتانِ. أقول: وقد مَرَّ معنا أنه ما من آيةٍ إلَّا وهي مُحْكَمةٌ في بَعْضِ جُزْئياتِا، وهذا الذي يقولُه الراوي، أن هاتين الآيتين مُحْكَمتانِ.
وحاصِلُه: أَنَّه نزل أَوّلًا: أنْ يُوصِي الزَّوْجُ أقرباءه أن لا يُخرِجوا زوجَتَه من بيتِه إلى سَنة، ثُم نزلت الآيةُ الأُخرى، وأُمِرتْ بِتَربُّصِ أربعةِ أَشْهُر وعَشْرًا، وتحتمت العِدةُ، لا يُزادُ عليها ولا يُنْقص منها. أما الأشهرُ الستةُ الباقية، فهي محيَّرةٌ فيها، إنْ شاءت سكنت في هذا البيت، وإنْ شاءت خرجت؛ ثُم إن اختارت أن تَمْكُث في البيت حتى تتمَّ حَوْلًا كامِلًا، يقال للوَرَثة: أنْ لا يُخْرجُوها إلى مُدَّتها. ومُحصَّله أن التربُّصَ بأربعةِ أَشْهر وعَشْرًا مُتَحَتِّم، وواجِبٌ من جهة الشَّرْع. والباقي سنةٌ موسَّعة، فكلتا الآيتين عند هؤلاء السَّلف محكمتان.
هذا كلامٌ في العِدّة، أما في السُّكْنى ففيه أيضًا خِلافٌ: فقال الحنفيةُ: لا سُكْنى لها، ولها الإِرْثُ ولكنها تعتدُّ في البيت، وعليها أُجْرَتُه، أما المُطلّقة فلها السُّكْنى مُطْلقًا، وكانت السُّكْنى لازمةً إلى تلك القضيةِ، ثُم نَسَخَتْها آيةُ التوارِث.
[معنى الإِحداد وأحكامه]
ثُم إنَّ الإِحدادَ واجِبٌ للمتوفَّى عنها زَوْجُها، وللمُطَلَّقة كِلْتَيْهِما، وهو عبارةٌ عَنْ تَرْك الزينةِ، والمَنْع من الخروج من بيت العِدَّة، فبيتُ العِدَّة لازِمٌ في عِدَّةِ الوفاة أيضًا، لكن مِن جهةِ الإِحداد، لا مِن جِهة لُزوم السُّكْنى، ولذا تجب أُجْرَتُه عليها، لا على الزَّوْج المتوفَّى. ولا يخفى عليك أنَّ أَمْرَ السُّكْنى أخفُّ عند ابن عباس، فإِنْ خرجت منها بِعُذْر يسير يَسَعُ لها، بخلافِه عِنْدنا، فإِنَّها حَقٌّ لَازِم، فلا يجوزُ لها الخُروجُ إلَّا بالأعذار المُدَوَّنةِ في الفِقه.
قوله:(عن مُجاهِد) ... إلخ. وهؤلاء أيضًا، إلَّا أنَّ عِدَّة الحَوْل نزلت بعد آيةِ التربُّصِ، وهي مُستحقّةٌ، خلافًا للجمهور.
قوله:(وسَكَنَتْ في وَصِيَّتها) أي الوصية التي أوصى لها زَوْجُها في حَقِّها.