للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يصيرُ إلهًا بكونه منفوخًا ومخلوقًا من غير الطريق المعروف، إنما هو إله يخلق كيف يشاء. ولذا جاءت تحمِلُه على يديها ليراه الناسُ أنه وُلِد كما يولد الناس؛ فانظرْ كيف ذَكَرَ وِلادتَه على أتم تفصيل، ولم يذكر وفاته ولو إيماءً مع كونه أدلُّ وأقطعُ لحجة الخصم، فهذه الآية حجة قوية لا يأتيها الباطلُ من بين يديها ولا من خلفها إن شاء الله تعالى.

وإذا تحصَّلت الفرق بينهما، فاعلم أن قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب مفعولٌ معه، وليس لإِفادة الشَّركة. والمعنى: أن للرجلِ معاملة مع مسح الرأس، أما إنها معاملةُ المسح أو الغسل فهو مسكوت عنه.

ثم أقول: إن «الواو» قد لا تكون للشركة في الحكم وتجيء للمصاحبة فقط مع اشتراكها في الإِعراب وأُسَمِّيها واو المعية. واستنبطته من كلام الرَّضي في قوله: لَلُبْس عبادةٍ ... إلخ، وعلى هذا أمكنَ «الواو» في قراءة الجر أيضًا للمصاحبةِ دون إفادة الشركة. والحسنُ فيه أن الآيةَ جَعَلت الوجهَ واليدينِ في طرف، والرأس والرجل في طرف آخر، لأنهما نوعان يشتركان في بعض الأحكام ويختصانِ ببعضٍ آخر، كسقوط الرأس والرجل في التيمم. وأشار إليه ابن عباس رضي الله عنه، ولعله في «الفوز الكبير» أن الوجهَ واليدَ مغسولان ويُعتبران في التيمم، والرأسَ والرِّجلَ قد يسقطان في حكم الغسل، فلهذين حكمٌ ولهذين حكم، ولذا جُمعا في الآية عند بيان المسح.

وفي تذكرة قديمة عندي أن اليد والوجه مغسولان في الأقوال كلها، بخلاف الرجل والرأس، فإن الشريعةَ تفردت ببيان وظيفتهما. وانحل به ما تعسَّر عليهم من قول ثُمَامة عند البخاري: آمنت مع محمد صلى الله عليه وسلّم فَفَهِمَ منه الشارحون أنه آمن معه مَعِيةً زمانية وليس بصادق، فاضطروا إلى التأويلات، ومراده أن ابتداءَ إيمانه قَارن وصَاحب مع بقاء إيمان محمد صلى الله عليه وسلّم فصحت المعيةُ، ولهذا الضيق استُشكَلت عليهم آية آخرى وهي: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: ١٠٢] وقالوا: إن «مع» يتعلق بالسعي لا بقوله: «بلغ».

والحاصل: أن المعيةَ والمصاحبةَ تصدُقُ بالاقتران في الجملة، لا كما فهموه. وعند البخاري يكفيك الوجهَ والكفين بالنصب أيضًا من هذا الوادي، فإِنه مفعولٌ معه، فإِنه أدار الحكمَ على هذا المجموع ولم يُرد أن يحكمَ على كل واحدٍ على حدة.

ثم اعرف الفرق (١) بين قوله: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} وقولنا: وامسحوا رؤوسكم بدون الباء


(١) قال الشيخ رضي الله عنه بعد نقل عبارة "بدائع الفوائد" الدالة على الفرق بين قولهم: قرأت سورة كذا وقولهم: قرأت بسورة كذا: إن المرادَ بالأول أنه قرأ هذا الشيء والمراد بالثاني أنه أوقعَ القراءة المعروفة المعهودة التي اشتهرت بهذا الاسم بين الناس، وعهدت أنها أي جنس بالإِتيان بهذه السورة، ووجهه أن قَرَأ في متعارف اللغة متعدٍّ بنفسه فإِذا نقلته الشريعةُ إلى عُرفها ولقَّبتْ به قراءة الصلاة، صار لازمًا، كان معنى قرأ على هذا فعلُ فعلِ القراءة، وهذا لا يحتاج إلى مفعول به، فلما أريدَ تعلقُه بسورة عُدِّيَ بالباء، مثل هذا في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: ٦] بالباء وقولك: مسحت رأس اليتيم، الأول على عُرف الشريعة، وهو إمرار اليد المبتلة على الشيء، فاقتضى ليلة، بخلاف الثاني فإنَّه على صرافة اللغة. انتهى بعبارته الشريفة.

<<  <  ج: ص:  >  >>