مقدماتِ النَّزْع، أو الإِيمان عند مشاهدةِ عذاب الاستئصال. ولما كان فرعونُ قد أدركه العَرَقُ، فشاهد عذابَ الاستئصال، فإِيمانُه إيمانُ بأس، وذلك غيرُ مُعْتَبَر. أما إنه قد كان دخل في النَّزْع أو لا، فالله تعالى أعلم به. وكيف ما كان إيمانُه غيرُ معتبرٍ عند الجمهور. وقال الشيخ الأكبر (١): إنَّ إيمانه معتَبرٌ، كما في «الفتوحات» و «الفصوص». قلتُ: ولعلَّ
(١) قال الشيخ الأكبر في الباب السابع والستين ومائة ما حاصِلُه: إن اللهَ تعالى لما علم أنه قد طُبع على كل قلب مظْهرٌ للجبروت والكبرياء، وأن فرعون في نفسه أذلُّ الأذلاء، أمَرَ موسى وهارون عليهما السلام أن يعاملاه بالرحمة واللِّينِ لمناسبةِ باطنِه، واستنزال ظاهره من جبروتِه وكبريائه، فقال سبحانه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ} [طه: ٤٤]، و"لعل "، و"عسى" من الله تعالى واجبتان، فيتذكَّر بما يقابله من اللين والمسكنة ما هو عليه في باطنه، ليكون الظاهرُ والباطن على السواء، فما زالت تلك الخميرةُ معه، تعمل في باطنه مع الترجِّي الإِلهي الواجب فيه وقوعُ المترجِّي، ويتقوى حُكْمها إلى حين انقطاع يأسه من أتباعه، وحال الغرق بينه وبين أطماعه لجأ إلى ما كان مستترًا في باطنه من الذِّلة والافتقار، ليتحقَّقَ عند المؤمنين وقوعُ الرجاء الإِلهي، فقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: ٩٠] فرفع الإِشكال من الإِشكال، كما قالت السحرةُ لما آمنت: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٢)} [الأعراف: ١٢١ - ١٢٢] أي الذي يدعوان إليه، فجاءت بذلك لِدَفْع الارتياب، ورَفْع الإِشكال، وقوله: {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} خطاب منه للحقِّ تعالى، لعلمه أنه سبحانه يسمعه، ويراه. فخاطبه الحقُّ بلسانِ الغيب، وسمعه: {آلْآنَ} أظهرت ما قد كنت تعلمه، {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} لأَتباعك، وما قال له: وأنت من المفسدين، فهي كلمةُ بُشْرى له، عرفنا بها، لنرجو رحمته، مع إسرافنا وإجرامنا. ثُم قال سبحانه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس: ٩٢] يعني لتكونَ النجاة لمن يأتي بعدك آيةٌ، أي علامةً، إذا قال ما قلته، تكونُ له النجاةُ مِثْلَ ما كانت لك، وما في الآية أن بأسَ الآخرةِ لا يرتفع، وأن إيمانَه لم يقبل، وإنما فيها أنَّ بأس الدنيا لا يرتفعُ عمن نَزَل به إذا آمن في حال نزوله إلَّا قومَ يونس عليه السلام، فقوله سبحانه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: ٩٢] بمعنى أن العذاب لا يتعلق إلَّا بظاهرك، وقد أريت الخَلْقَ نجاته من العذاب، فكان ابتداءُ الغرق عذابًا، فصار الموت فيه شهادةً خالصة برؤيةٍ لم يتخلَّلها معصيةٌ، فقُبِض على أَفْضل عَمَل، وهو التلفُّظ بالإِيمان، كلُّ ذلك حتى لا يَقْنُط أَحدٌ من رحمة الله تعالى، والأعمال بخواتيمها، فلم يزل الإِيمانُ بالله تعالى يجولُ في باطنه، وقد حال الطابع الإِلهي الذاتي في الخَلْق بين الكبرياء واللطائف الإِنسانية، فلم يدخلها قَطُّ كِبْرِياء، وأما قوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: ٨٥] فكلامُ محقَّق في غايةِ الوضوح، فإِن النافِعَ هو اللهُ تعالى، فما نَفَعهم إلا هو سبحانه، وقوله عز وجل: {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر: ٨٥] فيعني بذلك الإِيمان عند رؤية البأس غير المعتاد، وقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: ١٥] فغايةُ هذا الإِيمانِ أن يكون كَرْهًا، وقد أضافه الحقُّ سبحانه إليه. والكراهةُ محلُّها القَلْب، والإِيمانُ كذلك، والله تعالى لا يأخذُّ العَبْدَ بالأعمال الشاقَّة عليه، من حيث ما يجدُه من المشقةِ فيها، بل يضاعِف له فيها الأَجْر، وأما في هذا الموطن فالمشقةُ منه بعيدةٌ، بل جاء طَوْعًا في إيمانه، وما عاش بعد ذلك، بل قبض، ولم يؤخر، لئلا يرجعَ إلى ما كان عليه من الدَّعْوى، ولو قبض ركاب البحر الذين قال سبحانه فيهم: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: ٦٧] عند نجاتهم لماتوا مُوحِّدين، وقد حصَلت لهم النجاة. ثم قوله تعالى في تتميم قصته هذه: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: ٩٢] على معنى قد ظهرت نجاتُك آية، أي علامة على حصولِ النجاة، فَغَفَل أكثر الناس عن هذه الآية، فقضوا على المؤمن بالشقاء. وأما قوله تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: ٩٨] فليس فيه أن يدخلها معهم، بل قال جلَّ وعلا: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: ٤٦] ولم يقل: أدخلوا =