سارة. وعند الترمذي:«هذا وُضُوئي ووضوء الأنبياء مِنْ قبلي» فثبتَ الوضوء في الأمم السالفة في الجملة.
وإذا اشتركَ الوضوءُ بيننا وبين الأمم، فما وجه اختصاص التحجيل بهذه الأمة؟ ولقائل أن يقول: إنَّ وضوءنا أكثر من وضوئهم، فإِنه فرض علينا خمسَ صلوات في اليوم والليلة، فازداد وضوءنا على وضوئهم. وقال قائل: إن التَّحْجيل والعُزَّة بسبب الإِطالة، ولعلها لم تكن في الأمم السالفة. قلت: وعلى هذا ينبغي أنَّ مَنْ لا يطيلَ غرتَه وتحجيلَه من هذه الأمة لا يحصلُ له نفسُ التحجيل والغرة يوم القيامة، مع أنَّ الأمرَ عندي: أن نفس التحجيل من آثار نفسِ الوضوء وإطالتُها من إطالته، فكون التحجيل من آثار الإِطالة غير مُسُلَّم عندي.
ولم أجد في هذا الباب مع تتبُّع بالغٍ غيرَ ما في «حِلْية الأولياء» لإ لأبي نُعيم في صفات هذه الأمة: «متوضئين الأطراف». وفي التَّوراة: أني أجد في الألواح أمةً حمَّادين متوضئين ... فاجعلها يا رب أمتي. وفي الدَّارمي عن كعب قال: «نجده مكتوبًا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا فظٌ ولا غليظٌ ولا صخَّابٌ في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، وأمته الحمَّادون، يكبرون الله عز وجل على كل نَجْدٍ، ويحمدونه في كل منزلة، ويتأزرون على أنصافهم، ويتوضئون على أطرافهم، مناديهمُ ينادي في جو السماء، صفُّهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء، لهم بالليل دَويٌّ كدوي النحل، ومولده بمكة، ومهاجره بطَيْبة ومُلكه بالشام. اهـ.
فعَلِمت أنَّ لوضوء هذه الأمة اختصاصاتٌ ليست في الأمم الماضية، فلذا صار وضوءُنا وصفًا مشتهرًا بنا. وظني أن الوضوءَ في الأمم السالفة كان على الأحْدَاث، بخلاف هذه الأمة فإِنَّه عند الصلوات أيضًا، وهو معنى قوله تعالى:{يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ}[المائدة: ٦] فالمطلوب من هذه الأمة الوضوء عند كل صلاة وإن لم يكن واجبًا، لا عند الأحداث فقط.
ولذا لا أقدِّرُ فيها: وأنتم مُحدِثون كما قدروه، فإِنه يختفي به رضا الشارع، وهو الوضوء لكل صلاة. وعند أبي داود: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرًا أو غير طاهر .. فكان ابن عمر رضي الله تعالى عنه يَرى أنَّ به قوةً فكان يتوضأ لكل صلاة: فهذا دليل واضحٌ على أن المطلوبَ والمرضيَّ هو الوضوء عند كل صلاة، لا عند الأحداث فقط. واستحبه فيها فقهاؤنا أيضًا (١).
(١) قلت: وهذا كالصلاة فإنها فرضت علينا مرزعةً على الأوقات، فنحن نراقبُ الشمسَ ونراعي الأوقات، بخلاف الأمم السالفة فإِنها كانت عليهم التقيد بالأمكنة، ولذا كانوا يطلبون البِيَعَ والكنائس لصلواتهم، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا فإِنها لم تكن مسجدًا لهم إنما جعلت لنا خاصة، وهذا هو معنى الجعل والحاصل: أن الأهم عندنا مراقبةُ الأوقات ومراعاتها ثم الصلاة أينما كانت، والأهم عندهم الأمكنة، وسيجيء البحث عنه عن قريب إن شاء الله تعالى. =