واعلم أنَّ في اللِّعان مباحِثَ: الأول: في شأنِ نُزُوله، ويُرْوى في ذلك قِصَّتان: قِصَّة هلال بن أُمَية، وقُذْفه زَوْجَته؛ والثانية: قِصَّة عُويْمر العَجْلاني. قال الشارحون: إنهما متقارِبتان، ونزلت الآيةُ بعدهما.
البحث الثاني: في ماهيةِ اللعان: فهي شهاداتٌ، مُؤكَّداتٌ بالأَيمان، وذِكْر الشهادة في النصِّ يؤيِّدُنا، وعند الشافعية هي أَيْمانٌ مؤكَّدات بالشهادات. فيشترطُ عندنا في المتلاعنين أهليةُ الشهادة، ولا يُشترط عندهم، لكونه عبارةً عن الأَيْمان، ولا يُشْترط فيه أهليةُ الشهادة عند أَحَد.
والثالث: في حِكْمة إقامة بابٍ جديد، مع أنه ليس إلَّا قَذْفًا، فينبغي أن يُغْني عنه بابُ حدّ القذف.
فاعلم أنَّ الحاجةَ إنما دعت إليه، لأنَّ للمرءِ غَيْرةً على زوجته ليست على غيرها، وذلك أَمْرٌ فِطْري لا يُلام عليه، فإِنْ وَجَد رَجُلًا مع أجنبيةٍ يَخْبُث بها، يُسوّغ له أَنْ يصبر، أو يأتي بأربعة شهداء، بخلاف زوجته، فإِنَّ الغيور لا يستطيعُ الصَّبرَ عليه، وطلبُ الشُّهداء أشدُّ عليه في مِثْل هذا الحين. فهل عليه أن يبلغه إلى القاضي، أم كيف يفعل؟ فإِنه إنْ يتكلَّم يتكلَّم بأَمْرٍ عظيم، لا تتركونه إلَّا بالحدِّ، وإنْ يسكت يسكت على أَمْر عظيم، والموتُ ألذُّ دونه، فإِنْ قتله فتقتلونه، فَأَخْرج له الشَّرْع سَبيلًا ومَخْرجًا، فأقام له بابًا وهو اللِّعان. وحُكْمه التفريقُ بعده، وذلك لأنَّ الأَمْر إذا لم يَنْكَشف، لِيُحدَّ الزَّوْج حَدَّ القَذْف، أو المرأةُ حدَّ الزِّنا، ليس إلى الاجتماع والتلفيق بعد هذا الادِّعاء من سبيل، فتعيَّن التفريقُ، وشُرِع اللِّعان.
والرابع: أن التفريقَ يكون من نَفْس اللعان. أو يحتاج إلى القاضي؟ فاعلم أنَّ اللِّعان لا يحتاجُ إلى تفريق القاضي عند الشافعيِّ، وعندنا لا بدَّ منه وكأنَّ ذلك بديهي فإِن الشَّرْع لِمَ دَعَى المتلاعِنَين إلى مَجْلس القضاء، لو لم يكن لقضائه مَدْخلٌ فيه فإِن دعوتهما إلى مَجْلِسه إذن لَغْوٌ والخلافُ فيه على عَكْس ما في الإِيلاء، فإِن الفُرْقة فيه تَجِب عندنا بمجرد مُضي المُدَّة، وعند الشافعيِّ بتفريق القاضي، أي فَيُجْبِره بعده إمَّا على الرجوع، أو على الطلاق. قلنا: إنَّ القرآن ضَرَب في الإِيلاء مدةً مِن قِبله، فإِذا مضت حَلَّت الفُرْقة بنفس الإِيلاء. فإِنَّ المدَّة تمضي وهي قاعِدةٌ في بيتها، فلا حاجة فيه إلى مَجْلس القضاء، فلم يظهر فيه لقضائه دَخلٌ، بخلاف اللعان. أما كون الإِيلاءِ تفريقًا، مع أنه لا لَفْظ فيه يُبنىء عن التفريقِ، فأجاب عنه صاحبُ «الهداية» أنَّ الإِيلأَ كان طلاقًا في الجاهلية، فقرَّره الشَّرْع على ما كان في حقِّ التفريق.