ثم ما تفعل بقوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [القلم: ٤٤] فإِنّ الله تعالى قد أخبر بإمهال الظالمين أيضًا، فإن كنْت فَهِمًا لَقِنًا، فافهم الفَرْق بين الراسخ والذائغ والمطيع، والعاصي، فَسنّته مع الخواصّ المؤاخذة، وسُنَّته مع الظالمين الإِمهال. ثم إنَّ وعيدَ القَطع ليس لاحتمال خيانةٍ هناك، والعياذ بالله، كيف! وأنبياء الله عليهم السلام يُطبعون على أداءِ أمانةِ رَبّهم، وخَشيتهم إيّاه في سِرِّهم وجَهرهم. فزوال الجبل عَن مَحَله يكون أهونَ من تَزَلزُل الرسول عما طُبع عليه. وإنّما يُفْرض في حَقِّهم بَعْضُ ما لا يليقُ بشأنهم، نظرًا إلى ضَعْف بنيةِ البشر، أي إنَّ بنيتهم بنيةُ البشر، ضعيفة أن تستقِرّ على مكانها مع تلك القوادح، إلا أنّ الربّ جل مَجدُه لما تكفل لهم بالعِصمة فرض تلك الأمورَ فيهم، كفرض المحال، وهذا هو الفرق بين بنية المَلَك وبنية الرسل. فإِن بنية المَلَك تَأبى عن هذه الأمور بالنَّظر إلى الذات، بخلاف بنية النبيّ، فإِنها من مادة ضعيفةٍ، لكن الرب تبارك وتعالى إذا حماها عن الاقتحام فيما لا يريد، فإِنها تساوق، بل تزيد على بنية المَلَك قوة، فالفَرض في حَقِّهم لا يكون على طَوْر فَرْض المناطقة: الإِنسان حمارًا، بل بيانًا لِضعَف البنية، وأنهم برسالتهم لم ينسلخوا عن البشرية، ولكن مع كمال البشرية قد حفظهم اللهُ تعالى، وهو معنى قوله في سؤال عائشة: "أمعك شيطان؟ قال: نعم، ولكنه أَسلم"، كما هو عند مسلم. وبالجملة ليس الوعيدُ في آية التقوّل لاحتمال خيانة، كيف! وهو محال بعد حفاظة الربّ تبارك وتعالى، فَفِيه توكِيدٌ لِصِدْقه، لا تهديدٌ على تَقَوْله، والعياذ بالله، ولذا قال: {بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} فما يأتيه الأنبياءُ عليهم السلام لا يشوبه شيءٌ من الكذب، ولكنه نحوُ استدلالٍ على حقيقةٍ من جهة التكوين، ويكون الكذبُ مَنْفيًا عن جُزْئه، كما يكون عن كُله، ولا يكون على حَدّ قولهم: للأَكثر حُكْم الكل، وجُملةُ الكلام أنه خطابٌ كخطابه مع عيسى عليه الصلاة والسلام في المحشر: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: ١١٦] ليس فيه الاستفهامُ، لخفاءٍ في أَمْر عيسى عليه الصلاة والسلام، بل للتشديدِ على أمته، وتوفيرًا لحظ العدل، وقد رأيتُ أنَّ الله تعالى قد يتكلم مع أصفيائه كلامًا يترشح من أطرافه شآبيب الألطاف، والجاهل إذا لم يَذُقه من نفسه يزعمه تهديدًا لهم، ولا يحسب أن المقصودَ منه يكون إفحامَ الكَفَرة وإلزامهم، ولكن لشدةِ جَهلهم لا يُحِبْ أن يخاطبهم به في صريح القول، فيخاطب رسوله بما كان يريدُ أن يخاطبهم به، فكأنه يتكلَّم معه، ويسمعهم في أثناء مخاطبته مع رسوله، ما هم له أَهل، ولذا قد تَجِد شاكلة القرآن في مخاطبته مع الرسل بما يستحيلُ عليهم. ومن هذا الباب قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: ٦٥] فإن المقصودَ منه بيان حبط أعمال المخاطَبِين، ولكنه لما تَرَك عنهم الخِطَاب - ولا بد له من بيان حقيقةِ الأَمر - خاطب رسوله ما كان يريد أَن يخاطبهم به، وهذا أوكد وأبلغ، فإِنه لما أعلن عن حُبوط عمل خواصّه، فكيف بمن لا يُدَانيهم في المنزلة، بل هم على نقاضتهم، ولهذا السر قد يشدد في قوالب الألفاظ، ليتنبه السامع أن هذا التشدد لا يناسب ظاهر حاله، فينتقل منه إلى أنه خطابَ مع آخرين، ومَن لا يدري أساليبَ الكلام، لا يذوقُ ما قلنا، ولعلك ضَجِرت من طُول بقبقتي، فالسلامُ عليك.