للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قُلْتُ: أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أولى بالاتباع في هذا الباب، فهذا الحديثُ وإن كان صحيحًا عند مسلم لكنه معلولٌ عند أحمد. وقال الذهبي في ترجمة خالد بن أبي الصَّلْت: أنه منكرٌ. وصَحَّحَ البخاري وقفَه، ثُمَّ إن خالدًا هذا جعفر بن ربيعة الضابط والحجة في عِرَاك، فإنَّه رواه عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تُنكر ذلك ولم يرفعه، وأوضح القرائن على وقفِهِ أَنَّه حَدَثَ بمجلس عمر بن عبد العزيز، عن عِرَاك، عن عائشة رضي الله عنها فلم يَعمَل به.

رواها الدارقطني من طريق هارون بن عبد الله، والبيهقي من طريق يحيى بن أبي طالب كلاهما عن علي بن عاصم حدثنا: خالد الحَذَّاء، عن خالد بن أبي الصَّلْت قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز في خلافته وعنده عِرَاك بن مالك، فقال عمر: ما استقبلتُ القِبلة ولا استدبرتُها منذ كذا وكذا، فقال عِرَاك: حدثتني عائشة رضي الله عنها أمْ المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما بَلَغَهُ قولُ النَّاس في ذلك أمر بمقعدتِهِ فاستقبل القِبْلة، وهو عند الطحاوي أيضًا. ومع ذلك لم يعمل به عمر بن عبد العزيز، حتى إن مذهبه أن التَّفْل في جهة القبلة حرام، فكيف بالغائط وما ذلك إلا أَنَّه رآه موقوفًا.

ثم إن الحديث أجنبي في الباب ولا يرتبطُ مما رُويَ عنه صلى الله عليه وسلّم في هذا الباب، لأنَّه لا يخلو (١) إمَّا أَنْ يكون مقدَّمًا على حديث أبي أيوب أو متأخرًا عنه، فإنْ كان الأول فقد نَسَخَه حديث أبي أيوب، وإن كان الثاني فلا معنى لإنكارِه عليهم بعد الأمر به بنفسه، ولا يتعقل عاقلٌ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم نَهَاهم عن الاستقبال والاستدبار أولًا، ثم تعجَّب عليهم حين امتثلوا بأمره وانتهوا عن نهيه، فهذا الحديث يدل على كونه موقوفًا. وإِنما الأمر أنَّ عائشة رضي الله عنها هي التي تعجبت من فعلهم، ثم أمرتهم بما أُمِرَت، وليس ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلّم إِنْ شاء الله تعالى. ولعلَّ الدارقطني قد عدَّه من أفرادِهِ لمثل هذا (٢).


(١) قال ابن حزم في "المحلى": إن حديث عِرَاك عن عائشة رضي الله عنها ساقط، ثم نوضح لما كانت فيه حجة لأن نصَّه - صلى الله عليه وسلم - يُبين أنه إنما كان قبل، لأن من الباطل المحالِ أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَاهم عن استقبال القبلة بالبول والغائط ثم يُنكر عليهم طاعة في ذلك. هذا ما لا يظنه مسلمٌ ولا ذو عقل. اهـ.
(٢) قلت: وحديث عائشة يدل على أن الكَنِيف في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مبنيًا نحو القبلة، وإنما حوَّل بعد ما بلغه من الناس ما بلغ، والصحيح أنه حولته عائشة رضي الله عنها. لا يقال: إن حديث ابن عمر رضي الله عنه أدل على مذهب الشافعية، لأنه يدل على أن الكنيف في بيت حفصة كان مبنيًا قِبَلَ الشام، ويلزمُ للقاعِدِ عليه أن يستدبر القبلة، فثبت الجواز في البُنيان.
قلت: وهل عندك فيه غير رؤية ابن عمر رضي الله عنه؟ وتلك أيضًا كانت مفاجأة مع كونه محجوبًا عليه بِلَبنَة، فكيف يصلُح لك أن تبني عليها مسائل الحل والحُرْمة، مع وجودِ حديث في الباب مسفرًا إسفارَ الصبح؟ فينبغي أن يرجع في مثل هذه المسائل إلى الأقوى والأنص والأصرح، وقد أقر ابن حزم وابن القيم: أن جمهورَ الصحابة والتابعين كانوا يختارون النهي مطلقًا وما نقله الحافظ رضي الله عنه من موافقة الجمهور إياه بعيد عن الصواب، إلّا أن يكون أراد من الجمهور جمهور الأئمة أي أكثرهم لا جمهور السلف. وصرح القاضي أبو بكر بن العربي في "شرح الترمذي" أن الأقرب والأقوى في الباب مذهبُ الحنفية.

<<  <  ج: ص:  >  >>