للفَصْل بين الخبيثِ والطيِّبِ، قال تعالى:{ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[الأنعام: ٦٠]، وإذن لا يكونُ التمييزُ بينهما إلَّا علميًا، فاعلم أنَّ الدنيا مجموعةُ الأضداد، كالظُّلمة والنُّور، والظل والحَرُور، والطَّيِّب والخَبِيث، والكُفْر والإِيمان، فإِذا نظرنا أنها بُسِطت على هذا المِنْوال، عَلِمنا أنه لا بدَّ أن تكون فيها نفوسٌ على نقاضة المُرْسَلين. فإِنَّ لكل شيءٍ ضِدًّا، وأضداد هؤلاء الطائفةِ لا تكون إلَّا مِن جِنْسهم من الدجاجلة.
ثُم إذا عَلِمنا المعجزةَ، وهي حقيقةٌ قُدْسيَّةٌ، يُظْهرُها الله على أيدي المقدسين، عَلِمنا أنه لا بدَّ أن يكونَ هناك شيءٌ على مناقضَتِها أيضًا، وهو السِّحْر.
ثم المعجزةُ على نحْوين: حِسِّيّة أو عِلْمية. أما الحسِّية، كاليدِ البيضاء، أو العصا، فقد مضت بصاحِبها. أما العِلْمية فهي باقيةٌ إلى يوم التناد. ولو أَمْعَنت النَّظرَ لَعَلِمت أن المعجزةَ الحِسِّية أيضًا تنتهي إلى العِلْم أو العَقْل، وذلك لأنَّه لا سبيلَ إلى التمييزِ بين المعجزةِ والسِّحْر، ولو كانت حِسِّيةً إلَّا بالعِلْم والعَقْل، فعلم أنَّ انتهاءَ المعجزةِ الحِسّية أيضًا إلى العِلْم والعقل، دون المشاهدة. فإِذا دريت أَنَّ الفَرْق بينهما عَقْلي وعِلْمي، حتى بين الحسِّية والسِّحْر أيضًا، فأقول: إنهما يَفْتَرِقان عِلْمًا، بحيث لا يكادُ يلتبس على أحدٍ. فإنَّ الفَرْق إما يكونُ من جهةِ الفاعل، أو المادَّة، أو الغاية، وذلك بأنواعها متحقِّقٌ ههنا.
أما الأَوَّل: فالساحِرُ يكونُ خبيثَ النَّفْس، رديءَ الأخلاق، مُتلبِّسًا بالخبائث. وأما صاحبُ المعجزة: فيكونُ طَيِّبَ النَّفْس، حسنَ المَلَكة، شريفَ الأخلاق، ذَكي الطَّبْع، بعيدًا عن الأَرْجاس؛ وأما مِن جهةِ المادة، فمادةُ السِّحر كلُّها تُبنى على الخُبْث، كالاستمداد بالشياطين والأرواحِ الخبيثة، والذهاب إلى جماجم الأمواتِ، واستعمال عظامٍ نَخِرة، بخلاف المعجزةِ، فإِنَّها في أَغْلب الأحوالِ تَصْدُر بلا سبب، كاليدِ البيضاء، والعصا، فتلك لا مادّةَ لها، وما تَصْدُر عن سببٍ لا تكونُ مادَّتُها غيرَ القدس والطهارة، كقراءةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بكلمات في طعام، والبركةِ منها؛ أما الصورة، فإِنَّما تأتي على المادة كيف كانت، فهي أيضًا تتبعها. بقيت الغايةُ فهي على ظاهرِ الأَمْر.
هذا في الفَرْق بين السِّحْر، والمعجزة. أما الفَرْقُ بين الكرامةِ والمعجزة: فبأن الكرامةَ تحتاجُ إلى صَرْفِ هِمَّة الولي، فللكَسْب والاكتساب دخلٌ فيها، بخلاف المعجزةِ، فإِنَّها لا تَحْتاج إلى صَرْف الهِمَّة. وقراءةُ الكلماتِ شيءٌ آخَرُ، وإنَّما نعني مِن صَرْف الهِمَّة عزيمةَ صاحبها، وكذا لا دخل فيها للرياضات والاكتساب، فإِنَّها إما أن تكونَ من الدُّعاء، أو بدونِ سابقيةِ أَمْر، بخلافِ الكراماتِ فإِنَّها مُمْكِنةُ الحُصُولِ بالرياضاتِ؛ أما المعجزة فكما قال تعالى:{فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ} الآية [الأنعام: ٣٥]. وراجع «فتح العزيز» عند تفسير قوله: {يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ}[البقرة: ١٠٢].